Ad

العرب جميعاً مسؤولون مسؤولية مباشرة عن كل ما يجري في ساحة الصراع مع إسرائيل بما في ذلك ما يجري داخل الساحة الفلسطينية، ببساطة نحن جميعاً شركاء في إنتاج المحنة الراهنة.

مشهد خفيف الظل في أحد الإعلانات التجارية: سيدتان تروجان لمنتجين مختلفين من سلعة واحدة تتصارعان على رأس رجل: الأولى تشد الرأس ناحية اليمين بطيف هائل من المزايا، والثانية تشد الرأس ناحية اليسار بطيف متساو من المزايا، ولما دار رأس الرجل مئات المرات في الثانية الواحدة بين اليمين واليسار، بدأت السيدتان بالانتقال إلى الدعاية السلبية بطيف هائل من «الردح» ضد السلعة الأخرى، فزادت سرعة رأس الرجل وهي تتحرك بين اليمين واليسار، وفي النهاية خلع الرجل رأسه طائعاً لتتقاذفه السيدتان باليد أولاً، ثم بالقدم في نهاية الأمر، والطريف أن السيدتين تركتا السلعة في النهاية وتفرغتا للعب كرة القدم برأس الرجل!

السجال بين «فتح» و«حماس»

اليوم لا تختلف الحال كثيراً في الصراع السجالي بين «فتح» و«حماس»، ومن يطالع الإنترنت يُدهش من شدة الاستقطاب وسوء الدعاية السوداء بين أنصار كل من الفصيلين، ويشعر حتى الكاتب المتخصص أن ثمة ملعبا كبيرا للملاكمة أو كرة القدم يلعب فيه الفرقاء برأس الرأي العام العربي، خاصة بعد الانتقال إلى استراتيجية الدعاية السلبية، أو فاصل «الردح» الطويل. أنصار «حماس» يتهمون رجال فتح بالفساد والخيانة، وأنصار «فتح» يتهمون «حماس» بالظلامية والإرهاب، الطرف الأول يتحدث عن وثائق وأدلة تدمغ بالخيانة والتورط مع إسرائيل، والثاني يتحدث عن شهادات ومشاهدات تدمغ بالإرهاب والتبعية لإيران! أنصار «فتح» يتحدثون عن «شرعية الرئيس» أو الشرعية الواحدة، وأنصار «حماس» يتحدثون عن «شرعية البرلمان» أو الشرعية الثنائية للرئيس والبرلمان، أنصار «فتح» ينكرون شرعية الأمر الواقع الذي ترتبت على أحداث 14 يونيو في غزة وأنصار «حماس» ينكرون بشدة شرعية المراسيم الرئاسية والحكومة المعينة، وأنصار «فتح» يطلبون العودة الى أوضاع ما قبل 14 يونيو من دون قيد أو شرط، وأنصار «حماس» يطلبون الاعتراف بنتائج الحسم العسكري في غزة والتفاوض من دون شروط لإعادة تنصيب حكومة الوحدة الوطنية.

والأهم، أن التنابذ والسجال انتهى إلى وضع فعلي: انفصال غزة ومعاناتها الهائلة، وانطلاق رام الله في تطبيق ترتيبات خاصة بالضفة بعيداً عن القطاع.

لم تكن هناك مشكلة كبيرة إن لم يكن الطرفان قد تركا القضية الأصلية: فلسطين المحتلة وواجب وضع تصورات محددة لتحرير الأرض والشعب ليشغلا نفسيهما بتسوية الحسابات ولعب الكرة برأس الرأي العام الفلسطيني والعربي، وثمة مشكلة كبيرة الآن لا تأتي من إسرائيل، فمواقفها ومصالحها مفهومة، بل تأتي من «أصحاب القضية»، في الوقت الذي تتفرغ فيه إسرائيل للحصول على الجائزة: فسلطين نفسها.

ما علينا أن نفعله ليس ما فعله الرجل في الإعلان الذي أشرنا إليه، فلا يجب أن نخلع رؤوسنا ونتركها للفريقين للتمتع باللعب بها. الموقف السليم أن نتأكد من ثبات رؤوسنا حتى لا نسمح لأحد باللعب بها، بل أن يتقدم الرأي العام العربي بمقدمات سليمة لحل الصراع والانطلاق في إعادة بناء المجتمع السياسي الفلسطيني على أسس سليمة وصحية.

ثلاث مقدمات

يحتاج الأمر إلى ثلاث مقدمات ضرورية للاحتفاظ بثبات العقل والفكر والتقدم برؤية واضحة لحل إشكالية الصراع الفلسطيني الراهن والتفرغ للنضال من أجل العدالة واستعادة حقوق الشعب؛ الأول: أن العرب جميعاً مسؤولون مسؤولية مباشرة عن كل ما يجري في ساحة الصراع مع إسرائيل بما في ذلك ما يجري داخل الساحة الفلسطينية. إذ لا يمكن فهم ما يمور داخل المجتمع السياسي الفلسطيني من دون استيعاب اليأس العام الذي يدفع له ضعف الإسناد العربي والدولي للنضال ضد نظام الاحتلال الأسوأ والأكثر اقتداراً وغطرسة وعنفاً في التجارب الحديثة للاستعمار. ببساطة نحن جميعاً شركاء في إنتاج المحنة الراهنة، ونحن جميعاً شركاء في مهمة التحرر من هذه المحنة وإنتاج خطة لتحرير فلسطين.

ثانياً: أن التحليل السليم للأزمة التي بدأت في غزة يوم 14 يونيو الماضي ثم توسعت لتشمل كل فلسطين المحتلة وفي معسكرات اللاجئين في كل مكان آخر يجب أن يعيدها إلى جذورها الحقيقية. ترجع الأزمة في الحقيقة إلى تشوهات أصيلة وطويلة المدى في البنية السياسية الفلسطينية هي في مجموعها تعكس التشوه في بنية السياسة الداخلية في أغلبية الأقطار العربية منذ منتصف عقد السبعينيات على الأقل. فقد أدمجت الثورة الفلسطينية في النظام العربي الاستبدادي الذي لعب على القضية الفلسطينية سياسياً واستخباراتياً (نفس لعبة الكرة السياسية) وأخضعها للاحتياجات الأيديولوجية لنظم عربية متنافسة، وقد أسفرت هذه الحقيقة عن إفساد واسع ومبكر لكوادر الثورة الفلسطينية، ثم عن «تديين» هذه القضية بصورة زائدة، وخلال ربع القرن الماضي اتسعت التشوهات في بنية المجتمع الفلسطيني كما في بقية العالم العربى، فأصبح ضحية صراع ثنائي بين طبقة حاكمة تتسم بالاستبداد والفساد من ناحية، وطبقة تعارض وتريد الحكم لنفسها عن طريق توظيف الدين في الصراع السياسي وعبر رؤية ذات طابع شمولي مغلق، ولكن هذه العيوب لا تنفي قط القدرات والحقائق النضالية الكبيرة والمؤكدة في الساحة الفلسطينية بالذات بالتمايز عن الأوضاع في البلاد العربية الأخرى.

وثالثاً: أن الحل السليم لا يبدأ بمضاعفة الخصومة بين الضدين الرئيسين في السياسة الفلسطينية، بل بوضع نهاية سليمة للصراع وتصحيح بنية المجتمع السياسي الفلسطيني والعربي، ومن ثم، فإن المفتاح الأول والأهم لوقف الحرب الأهلية بين التيارين الوطني والإسلامي يكمن في إطلاق عملية تفاوضية كاملة يشارك فيها الجميع بمن فيهم ،بالطبع، هذان التياران.

وفقط عبر تصحيح جوهري لبنية المجتمع السياسى أو ما نسميه بالنظام السياسي يمكن الاحتفاظ بالجوانب الإيجابية في كل من الفصيلين وعلاج تشوهاتهما في الوقت نفسه.

إن مفتاح التصحيح الضروري هو إنتاج نظام ديموقراطي بالفعل يملك الفلسطينيون أطره الدستورية والسياسية، فالدستور الحالي يؤسس لبنية سلطة ديموقراطية ومتوازنة، وليس صحيحاً أنها بنية غامضة أو معطلة، فلو كانت سبباً لتعطيل الحياة السياسية لما كان النظام الدستوري الفرنسي- الذي استلهمه الفلسطينيون عند وضع دستورهم- قد منح فرنسا هذا الاستقرار الخارق الذي نعمت به منذ تأسيس الجمهورية الخامسة. ومن ناحية أخرى، فالبنية السياسية الفلسطينية أقل خضوعاً للاستقطاب الثنائي من أي مجتمع عربي آخر وأكثر تنوعاً وصلابة بكثير على المستوى الشعبي والمجتمعي.

هل يمكن إنجاز هذه العملية التصحيحية أثناء أو في خضم التفاوض الحالي مع إسرائيل وأميركا حول صلب وجوهر القضية الفلسطينية؟

إجابتي الخاصة ما يلي: لم يكن من الحكمة بدء المفاوضات مع الخصم والعدو في أعقاب انقسام رئيسي وصراع جوهري في المجتمع السياسي الفلسطيني نفسه، ولكن وقف المفاوضات تماماً حتى تتم عملية تصحيح بنية المجتمع السياسي الفلسطيني لن يكون موقفاً مقبولاً من العرب والعالم.

والحل أن تستمر المفاوضات، ولكن تتم عملية التصحيح الفورية للوضع الفلسطيني الراهن بصورة جذرية.

هنا يكمن الدور العربي السليم والإيجابى، بدلاً من المساهمة بإذكاء النار المشتعلة في فلسطين، علينا جميعاً أن نرعى ونقدم أطراً مناسبة لإطفاء النار والعودة للتنافس السلمي في الإطار الديموقراطي.

الانتخابات محطة مهمة، ولكنها يجب أن تكون جزءاً من الحل لا طريقة لحسم الصراع على الأرض بوسائل ديموقراطية!

*كاتب ومفكر مصري