كيف نفهم مؤتمر أنابوليس؟ 1

نشر في 25-11-2007
آخر تحديث 25-11-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

هناك مطلب جوهري ستجعله إسرائيل قلب استراتيجيتها التفاوضية في «أنابوليس» ولأول مرة في تاريخ المفاوضات العربية - الإسرائيلية، وهو فرض الاعتراف بأن «إسرائيل دولة يهودية»!، لذا فالمؤتمر بهذا المعنى يأتي لفرض «يهودية الدولة» أكثر بكثير من التوصل إلى تعايش سلمي بين الدولة وضحيتها الأساسية: الشعب الفلسطيني.

مؤتمر غريب وعجيب ومثير لكل علامات الاستفهام، وقد لا نستطيع فهمه إلا بعد سنوات.

«أنابوليس» ذاتها مدينة محرومة من الهوية والخصوصية، لا طعم لها وهناك القليل جداً مما يخصها من بين آلاف المدن التي انبثقت مع الطرق السريعة وصارت مدناً تجارية من دون علة أو ميزة أصيلة.

هذا عن المكان، ولكن التوقيت أكثر أهمية وأكثر غموضاً بكثير، ولا يمكننا أن نفهم طبيعة هذا المؤتمر من دون أن نأخذ التوقيت في الاعتبار.

• كيف نفهم هذا المؤتمر؟

المنطق الشائع في الدعاية الرسمية الأميركية غير مفيد كثيراً، فمؤتمر أنابوليس سوف يجسد رؤية بوش القائمة على دولتين فلسطينية وإسرائيلية تعيشان جنباً إلى جنب في سلام، وثمة الآن فرصة لأن يطبق بوش رؤيته، لأنه أخيراً وجد في قمة السلطة الفلسطينية معتدلين يرغبون في وقف الإرهاب وتفكيك بنيته الأساسية... إلخ.

في المقابل فالمنطق الشائع في الصحافة العربية يصوره كمحض خديعة، سوف يبيع لنا الإسرائيليون السراب، ويحصلون منا على الاعتراف ويرغموننا على القيام بتنازلات عن حقوقنا الجوهرية من دون أن يمنحونا شيئاً، وحتى لو وقّعوا معنا اتفاق «سلام» فمصيره الحتمي سيكون مثل اتفاق «أوسلو» واتفاق «واي ريفر»، وغيره من الاتفاقيات التي لم تطبق منها إسرائيل سوى فقرات تمهيدية، ثم مزقتها بالقنابل وعادت لتلغيها من جانبها وحدها.

الواقع أن التفسير الشائع في الصحافة العربية لا يبدو مفيداً تماماً، فالأوصاف التي تطلق على مؤتمر أنابوليس لا تميزه عن غيره، بينما يكاد كل شيء يختلف في الواقع الموضوعي بين اللحظة الراهنة وأي لحظة سابقة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي.

والمذهل حقاً في مؤتمر أنابوليس أنه يكاد يشبه «حارة» مظلمة في مدينة سينمائية بنتها هوليوود لتصوير فيلم «أكشن» عن حروب المستقبل، فما يشغل بال أميركا فعلاً ليس السلام وإنما الحرب، ولم تبدِ إدارة بوش أدنى اهتمام بقضية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلا في سياق وحيد، وهو المرحلة الراهنة في مشروع بوش العسكري ضد إيران.

• «أنابوليس» مقابل «مدريد» و«كامب ديفيد»

وعندما يعقد مؤتمر أنابوليس سيكون حدثاً مختلفاً جداً عما سبقه من مؤتمرات للغرض نفسه، فمؤتمر مدريد عام 1991 كان حدثاً هائلاً بكل المقاييس، إذ حضرته كل أمم الأرض تقريباً، وكان الموضوع الأول على جدول أعمال العالم، وأتيح للشعب الفلسطيني أن يخاطب العالم كله بكلمة مركزة اجتمعت على إنشائها وصياغتها خيرة العقول الفلسطينية، وكان الوفد الفلسطيني هو «الطفل المدلل» للعالم كله بالرغم من أن الرئيس الفلسطيني أبو عمار كان قد وقف بصف صدام حسين قبل هذا المؤتمر بشهور قليلة.

وحتى إذا تركنا مدريد والتقاليد الامبراطورية الأوروبية الفخمة لنذهب إلى مؤتمر كامب ديفيد الأميركي عام 2000 لوجدنا أموراً مختلفة كثيراً عن «أنابوليس» الحالية، فرغم التقشف الظاهر في المنتجع بالمقارنة بقصور المؤتمرات، فهو كان محط أنظار العالم ومناط آماله في أحداث اختراق في أصعب صراعات الدنيا وأكثرها تعذراً على الحل، كان الرئيس كلينتون قد ترك كل شيء تقريباً من مهامه الرئاسية ليتفرغ كلية لعشرة أيام متصلة للمشاركة بنفسه وبرجاله الأشد ذكاءً للمساعدة على إيجاد حل سريع للمشاكل التي أعاقت بناء السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وعلى أي حال، فهو كان يفاوض بنفسه أهم قيادتين سياسيتين وعسكريتين أنتجهما المجتمع الإسرائيلي والفلسطيني في نهاية القرن العشرين: أي باراك من ناحية، وأبو عمار من ناحية أخرى، وكان بوسع الرجلين بالطبع أن يقنعا مجتمعيهما بالحل الذي انتهيا اليه في ما لو كانا قد فعلا، والآن تبدو الصورة على هذا الجانب مختلفة تمام الاختلاف، فالرئيس الأميركي كان ناقماً على سلفه كلينتون، لأنه كان انخرط بنفسه في المفاوضات، وهو، أي الرئيس بوش، لا يملك المهارات الهائلة التي كان يملكها سلفه ومنها معرفته الأفضل كثيراً بالشأن الفلسطيني، ثم أن الرجلين المتفاوضين باسم إسرائيل وفلسطين بالغا الضعف في وقت يتسم فيه الصراع بمستوى غير مسبوق من العنف والشدة.

• انقلابات ثقافية وسياسية

ليس ذلك كله هو أهم أوجه الاختلاف بين حالة الصراع التفاوضي في مدريد عام 1991 وكامب ديفيد 2000 وأنابوليس في اللحظة الراهنة، فأهمها وأكثرها تأثيراً على النتائج المحتملة هو التغير بالغ العمق في موقف المجتمع الإسرائيلي من الفلسطينيين والعرب، وهو تغير يمكن وصفه بالانقلاب الثقافي والسياسي، لم يكن المجتمع الإسرائيلي متفهماً لموقف العرب في أي وقت، ولكنه لم يكن أشد عداءً للعرب والفلسطينيين منه في هذه اللحظة، ولا يكاد أي عربي يدرك حجم الاختلاف بين حالتي المجتمع الإسرائيلي في نهاية التسعينيات مثلاً عنه في اللحظة الحالية، والواقع أنه حتى الآن لم تحظَ دراسة المجتمع الاسرائيلي باهتمام يذكر، فنسبة عالية جداً من المجتمع الاسرائيلي الراهن وأشدها نشاطية ومشاركة في الشأن السياسي جاءت من جحافل الهجرة السوفييتية المذهلة خلال التسعينيات، وهي تمتاز بقدر هائل من القسوة والمادية السوقية والرغبة في العنف والغطرسة الدينية والثقافية وكراهية العرب والقوميات غير الغربية عموماً.

والمجتمع الإسرائيلي، الذي يتفاوض معه الفلسطينيون اليوم، يختلف في عامل آخر لم يوله العرب اهتماماً يذكر من قبل رغم أنه كان شديد الأهمية، وهو أنه أطاح باليسار الصهيوني وغير الصهيوني تماماً تقريباً، كان لهذا اليسار دور في تأسيس فهم للحل السياسي للصراع العربي الإسرائيلي يعترف ولو بحق عملي للشعب الفلسطيني، وفي غياب هذا اليسار وهيمنة ذهنية يمينية عنفوية سوقية تامة لا يمثل الفلسطينيون أكثر من «عامل إعاقة أو عامل محبط» بالنسبة الى المشروع الذي ينخرط فيه هذا المجتمع الإسرائيلي، وصورة هذا المجتمع عن الفلسطينيين غاية في الغرابة فهم يبدون وكأنهم شعب أُلقي به بالمصادفة في طريق إسرائيل إلى المجد ليسبب له فقط المعاناة! ويصور آخر عدد من مجلة «مركز بيجين السادات» هذه الصورة عن الفلسطينيين ويصفهم بأنهم «شعب غير قادر على أن يحكم نفسه بنفسه... ولا على بناء علاقات جيدة مع إسرائيل». بل إن انهيار اليسار، بل والوسط الإسرائيلي، أفضى إلى تصفية فكرة الحاجة إلى التعايش مع العرب بصورة سلمية، لم يعد لصورة الحل الوسط والتعايش السلمي مع العرب والاندماج في المحيط العربي قيمة معترف بها في إسرائيل، فهناك رفض لانتماء إسرائيل إلى المنطقة، وتأكيد على انتمائها الى العالم الغربي، واحتقار لقيمة العيش في سلام مع العرب والجيران الإقليميين وتسليم بأن العيش في توتر دائم مع الفلسطينيين والعرب أمر حتمي ومصيري، أو ربما يكون مفيداً لأنه يمنح العقيدة الصهيونية حياة ملتهبة ومستمرة.

ولا يقل أهمية عن ذلك كله أن الوعي الإسرائيلي واضح تماماً في اعتقاده بأنه حقق النصر ضد الفلسطينيين، وسحق انتفاضتهم، وبدد تحالفاتهم العربية والدولية، وفي ذهن إسرائيل أيضاً أنها حققت ذلك أولاً من خلال فكرة الفصل والجدار تحديداً، وبالتحالف مع إدارة أميركية متفهمة أكثر من غيرها لحاجات إسرائيل ومصالحها، وعبر دور أكثر انضباطاً للجماعات والجاليات اليهودية في الخارج.

وينعكس هذا التغير متعدد الأبعاد والمستويات في التركيبة الإسرائيلية في مطلب جوهري ستجعله إسرائيل قلب استراتيجيتها التفاوضية في «أنابوليس» ولأول مرة في تاريخ المفاوضات العربية الإسرائيلية، وهو فرض الاعتراف بأن «إسرائيل دولة يهودية»!

ولهذا التعبير قيمته الرمزية ومضاعفاته السياسية والمستقبلية الحاسمة، وقد يكون أهم المطالب التي رُفعَت إسرائيلياً في أي منتدى أو مستوى منذ نشأتها على الإطلاق، وببساطة فهو يكرس «الشرعية الدينية» مقابل افتقار إسرائيل الى الأساس الموضوعي أو العدالي للشرعية القانونية الدولية، وهو يفلت إسرائيل من الالتزام بتطبيق القرار 194 والخاص بحق العودة «الى مساقط رؤوس» اللاجئين الفلسطينيين، ويمكن أن يوظف لاحقاً للتخلص من عرب 1948، ببداهة أنه يصادر تماماً على الحل القائم على بناء «دولة ديموقراطية علمانية في كل أرض فلسطين تحت الانتداب» باعتباره الحل الوحيد طويل المدى للصراع.

وهو بهذا المعنى مؤتمر لفرض «يهودية الدولة» أكثر بكثير من التوصل إلى تعايش سلمي بين الدولة وضحيتها الأساسية: الشعب الفلسطيني.

* كاتب مصري

back to top