ديموقراطيتنا لا تساوي فلساً!
النخب الكويتية التي يفترض فيها الوعي والإدراك، لا تزال غير منتبهة لهذه الخديعة الكبرى، ولحقيقة أن قشور الديموقراطية التي نسير عليها اليوم إنما تحوي في باطنها العذاب!
أتّفق مع زملائي الذين كتبوا خلال الأيام السابقة حول ضرورة التمسك بالديموقراطية والاعتصام بالدستور كصمام أمان لاستمرار هذا البلد، وحماسي لا يقل عنهم لهذا الأمر، وأشاطرهم كذلك الإدراك بأن هناك أطرافاً، لا تزال وستبقى شاعرة بأن الدستور وما أقره في مواده من مساحات واسعة للحريات والديموقراطية هو شوكة في حلقها، وأنه لو كان الأمر بيدها لانقلبت على هذا كله ولجعلتها «سيف ومنسف»!لكنني أعلم أن الدستور الذي صدر في عهد الشيخ عبد الله السالم، رحمه الله، لم يكن منحة من طرف واحد، وإنما كان نتيجة لتوافق ما بين الحاكم والمحكوم على أنه والديموقراطية يشكلان الوسيلة الوحيدة لاستمرار الكويت، وأنه كان لعبد الله السالم رؤيته الثاقبة بأن استمرار حكم آل الصباح واستمرار الكويت كدولة صغيرة في محيط ثقيل ضاغط لا يمكن أن يكون إلا في ظل هذه الوثيقة التي صدرت في 1962م لتجعل الأمة مصدر السلطات جميعاً.لكن وبعد تلك القفزة التاريخية التي رفعت من شأن الكويت في زمن مضى، تم اختزال الدستور والديموقراطية الكويتية في ممارسات سطحية خالية من القيمة الحقيقية، وجرى تطويق كل مظاهرها من برلمان وانتخابات وصحافة حرة وجمعيات ونقابات وغيرها، والعبث بمحتواها، لتصبح بصورة مهجنة غير مؤثرة، بل ضارة! البرلمان صار من وسائل عرقلة التنمية من خلال ممارسات أعضائه الذين نتج أغلبهم عبر انتخابات مخترقة بالرشوة والطائفية والتصفيات الفرعية، والحرية الصحفية طوِّقت بالكثير من القيود المرسومة بدهاء، والجمعيات والنقابات جعلت في غالبها مكممة أو ميتة لا حياة فيها، حتى تحولت تجربتنا الديموقراطية، وبعدما كانت جاذبة ينظر إليها الجيران بعين التقدير والإعجاب، إلى مثار تندّر وضحك! لكن مكمن الخطورة هو أن الأمة مصدر السلطات جميعاً، ومن خلال نخبها التي يفترض فيها الوعي والإدراك، لا تزال غير منتبهة لهذه الخديعة الكبرى، ولحقيقة أن قشور الديموقراطية التي نسير عليها اليوم إنما تحوي في باطنها العذاب!لقد صار مألوفا اليوم أن تسمع كثيراً من الناس تتمنى زوال البرلمان، بل لم يعد غريباً أن ترى من المثقفين من يقولون بمثل هذا الرأي الشاذ، وهذا لم يأت من فراغ، وإنما بسبب الواقع التنموي المزري الذي نعيشه.الديموقراطية في نهاية المطاف ليست غاية، وليست هدفاً نسعى إليه لذاته، وإنما هي وسيلة جاءت لحل مشاكل الناس وتنمية المجتمع وجعل بلدهم قادرة على دخول المستقبل الصعب، وحين يرونها تفشل في تحقيق هذا فشلاً ذريعاً، ويرون بلداناً مجاورة تتفوق وتنطلق بسرعة الصاروخ على سلم الاستقرار والأمن والتنمية والرخاء من دون برلمان ولا نواب ولا حريات صحفية ولا قوى سياسية، فحينها يحق لهم أن يكفروا بالديموقراطية، بل ويتمنوا زوالها!لعل بعض الجيران كانوا على استعداد لمقايضة أبراجهم بديموقراطيتنا في زمن من الأزمان، كما ذكر الزميل سعد العجمي في مقال له منذ أيام، لكن اليوم صار في الأمور أمور، ولا أظنهم سيدفعون لقاء ما عندنا فلساً واحداً!الحقوق تُؤخذ ولا تُمنح، ونحن من صمتنا ورضينا بتشويه ديموقراطيتنا وتجميد دستورنا عبر السنوات المتعاقبة، ونحن من سمحنا لقوى الفساد، عبر ترفنا الفكري وكسلنا السياسي واكتفائنا بالثرثرة الصحفية، بأن تسيطر على الأمور، وإن لم نتحرك اليوم، واليوم متأخر كثيرا أصلا، بجميع فئاتنا، إسلاميين وليبراليين ومستقلين وسنّة وشيعة وحضر وبدو، وبجدية لتغيير هذا الواقع المتدهور المستمر في الانحدار، فقريباً جداً لن نجد حتى أطلالاً للديموقراطية لنبكي عليها!