Ad

واقع مجتمعاتنا لا يبشر بانتشار ثقافة التسامح مستقبلاً، فالأقليات مازالت تعاني هضماً في حقوقها، ففي الكويت رفضوا مسجداً للبهرة، ومازالت المرأة محرومة من نقل جنسيتها إلى زوجها وأولادها، وهي مُبعدة عن القضاء في العديد من الدول العربية والخليجية... ومازالت لـ«ثقافة الكراهية» منابرها وإعلامها ومدارسها وجامعاتها ومنظروها ودعاتها من غير رقابة ولا محاسبة.

تتزايد معاناة المجتمعات العربية والإسلامية من تصاعد موجات العنف والتطرف في الساحة، وهي إن اختلفت في حجمها ومستواها من مجتمع إلى آخر إلا أن أساساً فكرياً واحداً يجمعها هو فكر أو ثقافة «الكراهية».

من كان يتصوّر أن إخوة النضال الفلسطيني تصل بهم الكراهية إلى أن يفتِكوا ببعضهم بسبب الصراع على السلطة؟! هل يُعقل أن تصل شهوة الانتقام والعداء لدى بعض عناصر «حماس» إلى أن تفتح النار على الجماهير المحتشدة في مهرجان لإحياء الذكرى الثالثة لوفاة الزعيم ياسر عرفات في غزة ليسقط سبعة قتلى غير عشرات الجرحى ولتعلن «فتح» الحداد العام؟! وهل يمكن تصديق ما قاله الزهار بين أتباعه من حملة الرايات الخضر مهدداً ومتوعّداً «أن «حماس» ستفعل في الضفة ما فعلته في غزة بمجرد انسحاب إسرائيل منها»؟ يحصل كل ذلك بين إخوة النضال، والقوميون مازالوا يغذون الجماهير بشعارات مستهلكة مثل «أمة عربية واحدة» وتهديدات إيران للخليج لا تجد موقفاً موحداً!!

لم تصبح «الكراهية» ثقافة وظاهرة إلا في العقود الثلاثة الأخيرة، فقد عاش الآباء والأجداد في مناخ متصالح مع الذات ومع الآخر، وما حصل في الساحة من تفاقم وانتشار هذه الثقافة المعادية للذات وللآخر، حصل كثمرة لتفاعل ثلاثة تيارات سياسية ودينية هي:

1- التيار التكفيري الديني الذي بنى خطابه التعليمي والدعوي على عقيدة أن الفرقة الناجية التي تدخل الجنة واحدة أما البقية فهي ضالة ومبتدعة.

2- تيار الإسلام السياسي الذي يرى العالم مؤامرة «صهيونية-صليبية) ضد المسلمين ويرى في الأنظمة العربية الحاكمة «صنائع» للغرب المتآمر.

3- التيار القومي بطبعيته «الناصرية والبعثية» الذي احتكر «الوطنية» لنفسه وخوّن «الآخر» السياسي واتهمه بالعمالة لمجرد الخلاف السياسي.

لقد أثمر تلاقح تلك التيارات الثلاثة وفي بيئة عندها القابلية التاريخية لأفكار «التخوين والتكفير والتفسيق»، ثقافة «الكراهية» المستحكمة، وما كان لهذه «التوليفة» المدمرة أن تكون بهذه الضراوة مثلما ظهرت في تجليّاتها الوحشية في العديد من الدول العربية والإسلامية لولا «التحريض» العدائي المستمر من قبل منابر دينية على امتداد الساحة، وفضائيات جعلت نفسها بوقاً ومنبراً للمتطرفين الكارهين للحياة والأحياء، الناقمين على مظاهر الحياة الحديثة، إضافة إلى الآلاف من المواقع الإلكترونية المتطرفة... هذا التحريض، كان هو «الوقود» الضروري لضمان تصاعد مدّ الكراهية وتجاوز لكل الثوابت الدينية والوطنية والقومية والإنسانية.

لقد استغل دعاة التحريض ضعف التحصين الديني والفكري للمجتمع واستطاعوا تجنيد قطاع عريض من شباب العالم الإسلامي «وقوداً» للصراع السياسي على السلطة، لكن الأخطر من التحريض على الكراهية «تبريراتها» التي تزعم أن ظاهرة الكراهية ما هي إلا رد فعل لمظالم الغرب الاستعماري قديماً والتدخل الأميركي حديثاً، أو الادعاء بأنها بسبب غياب الحريات السياسية وتنكيل السلطات العربية بالمعارضين السياسيين لاسيما الإسلاميين وتعذيبهم في سجون النظم الثورية.

ومع ذلك فإن أخبث التبريرات تلك التي تعلّل ثقافة الكراهية بأنها ناتجة عن التسلّط العلماني على الإعلام والمؤسسات التوجيهية في الدول العربية، يقول أحد الرموز الدينية معلّلاً ظاهرة التكفير والغلو في المجتمع العربي: «إن هؤلاء الشباب -يقصد الإرهابيين- متدينون، غيورون، هزّهم ما يرونه في المجتمع من ردّة فكرية وتحلّل أخلاقي في استطالة العلمانيين والشيوعيين على أجهزة الإعلام، فهم طلاب إصلاح وإن أخطأوا الطريق».

إن هذه التبريرات والمسوّغات هي الأشد خطورة لأنها تهيئ المناخ الثقافي الملائم لتنامي ثقافة الكراهية، فضلاً عن أنها لا تساعدنا على تفكيك هذه الثقافة عبر تتبع جذورها البعيدة وروافدها ومصادرها في تعليم تعصبي، وخطاب ديني إقصائي، وفتاوى تكفيرية، وخطاب إعلامي تعبوي مضلل، وخطابات أيديولوجية تغرس الكراهية، إضافة إلى التوظيف السياسي للدين وأشكال من التمييز تمارس ضد المرأة والأقليات الدينية والمذهبية... هؤلاء الذين يبررون ثقافة الكراهية بدوافع سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية يريدون استدامة الوضع التعليمي والديني على علاته من دون تغيير أو تطوير، وهم بذلك يقفزون فوق الحقائق الثابتة من أن الدوافع الأساسية المحركة لثقافة الكراهية، أفكار استعلائية تعصبية تحتكر الصواب المطلق والدين والوطنية، وترى أن مخالفيها كفار وخونة وعملاء.

هل تنتهي «ثقافة الكراهية» بحل المشكل الفلسطيني ورحيل الأميركيين ومعالجة المشاكل السياسية والاقتصادية؟ لا أظن ذلك، إذ لو كان ذلك مجدياً، لأجدى مع متطرفي بريطانيا الذين استضافتهم طويلاً وأعطتهم كامل حرياتهم وأمّنتهم سياسياً ومالياً واجتماعياً، ثم انقلبوا وجحدوا وأنكروا وعضّوا يد الجميل والإحسان.

في أعقاب عمليات الصدام والعنف والتوتر والتأزم، تتصاعد الدعوات والضغوط على السلطات العربية بضرورة اتباع سياسة التصالح وأسلوب الحوار مع الجماعات الخارجة أو المتمردة أو الناقمة انطلاقاً من الحفاظ على الوحدة الوطنية، وتوحيد الجبهة الداخلية في مواجهة تحديات الخارج، فهل للتسامح السياسي والاجتماعي مستقبل في ظل أوضاع مجتمعاتنا وثقافتها السائدة؟

التسامح كلمة محببة إلى نفوسنا، نردّدها كثيراً في أدبياتنا ومؤتمراتنا وإعلامنا وخطبنا، ونحن نعلم أن ديننا شديد العناية بقيم التسامح في عشرات النصوص الدينية في القرآن الكريم والسنّة المطهرة وفي المواقف الإنسانية للرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام.

لكننا كمجتمعات غير متسامحين لا على مستوى المجتمع الواحد ولا على مستوى المجتمعات الإسلامية مع بعضها بعضاً، فضلاً عن المجتمعات الأخرى.

وبداية فإنه لامجال للتسامح في العلاقات الدولية وصراعاتها المحكومة بلغة «المصالح» وليس بقواعد «الأخلاق»، ولذلك لا أفهم أي منطق لبعض المتحدثين العرب حينما يجمعهم مؤتمر بالآخر الغربي، إذ يبادر باتهام الغرب بعدم التسامح لانحيازهم إلى إسرائيل أو بما تفعله أميركا في العراق؟! الصراعات الدولية تحكمها قاعدة واحدة «المصالح».

وهكذا كان في الماضي على امتداد الخلافة الإسلامية وهي كذلك في الحاضر والمستقبل، سنّة من سنن الله في التدافع البشري ولماذا نستغرب؟ فإن لغة المصالح هي التي تحكم علاقات الدول العربية والإسلامية مع بعضها، لا قواعد الدين والأخلاق.

الغرب عندما يطالبنا بالتسامح فهو يقصد التسامح السياسي والديني والاجتماعي بين أبناء المجتمع الواحد وطوائفه، وفي نطاق الدولة المدنية الحديثة، أي من دون إقصاء أو تهميش لأقلية أو طائفة بسبب معتقداتها أو دينها أو مذهبها أو قوميتها أو جنسها، كما يمارسه فعلاً مع الأقليات الإسلامية في توفير كل الضمانات لممارسة كامل حقوقها وحرياتها في أوروبا، ونحن نتّهم الغرب بعدم التسامح بينما نفتقد أدنى درجات التسامح بين فئات وظائف المجتمع الواحد... إنه حوار الطرشان.

التسامح سلوك اجتماعي مكتسب يأتي كمحصلة لثقافة عامة سائدة، ولا يولد الإنسان متسامحاً ولا كارهاً، لكن المجتمع عن طريق الأبوين يبدأ بغرس مفهوم التسامح في وجدان الطفل ويؤكده المعلم في المدرسة بسلوكه ويعزّزه الشيخ في الجامع بدروسه وتعامله، ثم يفعّله المجتمع عبر مؤسساته التشريعية والعدلية والرقابية ومنظماته المدنية وجماعاته السياسية سلوكاً وتعاملاً، لكن واقع مجتمعاتنا لا يبشر بانتشار ثقافة التسامح مستقبلاً، فالأقليات مازالت تعاني هضماً في حقوقها -في الكويت رفضوا مسجداً للبهرة- ومازالت المرأة محرومة من نقل جنسيتها إلى زوجها وأولادها، وهي مُبعدة عن القضاء في العديد من الدول العربية والخليجية... ومازالت لـ«ثقافة الكراهية» منابرها وإعلامها ومدارسها وجامعاتها ومنظروها ودعاتها من غير رقابة ولا محاسبة.

* كاتب قطري