كفي نجيلاً... نريد نخلاً

نشر في 08-02-2008
آخر تحديث 08-02-2008 | 00:00
 محمد سليمان لأن الشعر فن صعب قلّت القصائد الجيدة وندرت بوجه خاص القصائد الشامخة القادرة على الإبهاج والإثارة وتحريك القلب والعقل، وتوارت القصيدة العمودية التي تلألأت في الماضي على أيدي شعرائنا الكبار، وجعلت من الشعر فن العرب الأول، ثم انحسرت في الأعوام الأخيرة قصيدة التفعيلة التي منحت الشعر العربي الحديث كل رموزه، ولم يعد هناك سوى ذلك الانتشار النجيلي لقصيدة النثر، وهو الانتشار الذي أشعر أحياناً بالندم لأنني ساهمت مع بعض شعراء السبعينيات قبل ربع قرن أو أكثر في مساندته والترحيب به كلون جديد من ألوان التجريب الشعري قادر على الاشتباك مع تيارات التجريب الأخرى، ومن ثم هز حياتنا الشعرية وإثرائها.

وأظننا في ذلك الوقت لم ننتبه إلى القاعدة التي تقول «لا مبرر لاختيار الصعب إذا كان الأسهل متاحاً» وهذه القاعدة كانت وراء ذلك الانتشار النجيلي لقصيدة النثر وباباً دخل منه إلى الساحة الشعرية جيش من المدّعين وكتّاب الخواطر ومن لا مواهب لديهم، بالإضافة إلى الشبان الذين اكتشفوا أن الشعر قد صار فناً سهلاً والانتساب إليه أيسر من الانتساب إلى الفنون الأخرى، فالشاعر الشاب الذي كان في الماضي مطالباً بمعرفة تراث أمته وشعر أسلافه والكد من أجل امتلاك أدوات الكتابة الشعرية أعفته قصيدة النثر من تحمّل هذه الأعباء وساهمت في إلغاء أو اختصار مراحل تكوينه وإعداده كشاعر، وهي المراحل التي تمثّل النواة وحولها وفوقها يؤسس الشاعر تمرده وتميزه في المستقبل، وعندما تختصر هذه المراحل أو تلغى يسود الهلام وتتداخل الأصوات والوجوه أوتتشابه، ونواجه في النهاية ذلك الانتشار النجيلي المشار إليه.

وقد كنت في السنوات الماضية أجرّب أحياناً قراءة عشر قصائد نثرية أو أكثر لشعراء مختلفين بعد حذف العناوين وأسماء الشعراء بحثاً عن اختلاف ما أو مسافة أو هوّة بين نص وآخر تشي بتميّز هنا أو هناك، وكنت غالباً لا أجد ذلك التميّز الذي يحدّد الملامح ويجسّد الموهبة وأجد القصائد كلها نصاً واحداً منداحاً أو متعدد المقاطع.

الطرافة وحدها هي ما أجده أحياناً في قصائد المجتهدين من كتّاب قصيدة النثر طرافة المفارقة، طرافة الصورة أو المشهد لكن الطرافة وحدها لا تصنع شعراً أصيلا وقادراً على البقاء إنما الموهبة والتجربة والثقافة والاستفادة من الموروث الشعري، الاستفادة التي لا تعني الموازاة أو الذوبان في القديم والسعي إلى تقليده أو استعادته بقدر ما تعني الاشتباك والتقاطع خاصة، والطرافة التي يعوّل عليها البعض تحترق بسبب التكرار وتتكفل غواية السرد أيضا بتقليص أثرها أومحوه.

قبل عشرين سنة أو أكثر كنت أتحدّث وأكتب عن الشاعر الموهوب صانع الأشكال القادر على الإبهار والإثارة وإعادة اختراع الشكل كلما كتب قصيدة جيدة، فالشكل لا يتحول إلى زنزانة أو قالب جامد إلا عندما يخلو من الشعر، أي على يد الشاعر الضعيف والعاجز، لكنه يتوارى ويختفي عندما تتوهج الموهبة وتعلو قامة الشاعر.

ومن هذا المنطلق لدينا الآن أشكال للقصيدة التفعيلية بعدد رموزها وشعرائها الكبار كما كانت هناك في الماضي أشكال عديدة للقصيدة العمودية تجدها عند المتنبي والمعري وأبي تمام وابن الرومي والبحتري وغيرهم لكن شعراء قصيدة النثر لم ينجحوا حتى الآن في إبراز هذه التعددية، أو بعبارة أخرى تحول الشكل النثري «إذا تساهلنا واعتبرناه شكلا» إلى سجن ضيق خانق أصاب قصيدة النثر بكل أعراض الشيخوخة وأحاطها بالشحوب والجمود.

الشعر الجيد قليل كما قلنا في البداية والنجيل الذي لا يستطيع الوقوف والصعود إلى الأعالي والذي يوهمنا بالخصوبة هو ما يهيمن الآن، وهناك بالطبع عدد كبير من شعراء التفعيلة والقصيدة العمودية يساهمون أيضاً في نشر هذا النجيل والعناية به، لكن يبقى لشعراء قصيدة النثر نصيب الأسد في الإنتاج والنشر والرعاية بسبب كثرتهم العددية، وربما بسبب عمل عدد كبير منهم في الصحف والمجلات وأجهزة الإعلام الأخرى وقدرتهم بالتالي على الترويج لأنفسهم وقمع الآخرين، لكن ذلك كله لن يزيف الواقع ولم يصدني عن قول كفى نجيلاً نريد نخلاً.

* كاتب وشاعر مصري

back to top