صلاح عبد الصبور

نشر في 19-10-2007
آخر تحديث 19-10-2007 | 00:00
 محمد سليمان

أن تكون مبدعاً مستقلاً منتسباً فقط لوطنك ولضميرك ولتجربتك الإبداعية، يعني أن تعيش متهماً ومحاطاً بعلامات الاستفهام، لاسيما من المثقفين والسياسين والكتاب الذين يرفعون راية «من ليس معنا فهو ضدنا». وصلاح عبد الصبور منذ بداياته كان مبدعاً مستقلاً لم يتحمس في الخمسينيات لعبد الناصر كغيره من المبدعين، ولم ينتسب لتيار سياسي ما، فعاش مغضوباً عليه مشكوكاً في ولائه ومتهماً من القوميين واليساريين.

في إحدى قصائده رفع صلاح عبد الصبور رايته البيضاء قائلاً لأصدقائه وقرائه:

ها قد سلمت لكم... سلمت

ضاعت بسماتي... لم تنفعني فلسفتي

هل تدعوني وحدي

وكفاكم أني سلمت

أم تضعوني في لحدي؟

وكان أن وضعوه في لحده في منتصف أغسطس عام 1981 بعد ثرثرة في منزل صديقه وزميل رحلته الشعرية أحمد عبد المعطي حجازي، ثرثرة تحولت، كالعادة، إلى محاكمة فإدانة بالخيانة والعمالة للرئيس السادات ولسياساته، وأفضى هذا كله إلى إصابة عبد الصبور بنوبة قلبية قضت عليه. وقد مرت ذكرى رحيله السادسة والعشرين في أغسطس الماضي من دون إحياء أو احتفاء بأحد أهم رواد شعرنا الحديث.

وهذه المحاكمات التي تشيع في أوساط المبدعين والكتاب يذكرنا معظمها برواية كافكا الشهيرة «المحاكمة» وببطلها الذي يسوقه إلى الموت قضاة غامضون بعد إدانته بارتكاب جرائم أكثر غموضاً. كما تذكرنا أيضا بمسرحية صلاح عبد الصبور «مسافر ليل» وبجوها العبثي وبعامل التذاكر بطلها «عشري السترة» الذي يحاكم راكب القطار مصدراً الحكم بإعدامه بعد إدانته بارتكاب جريمة ملتبسة.

أن تكون مبدعاً مستقلاً منتسباً فقط لوطنك ولضميرك ولتجربتك الإبداعية يعني أن تعيش متهماً ومحاطاً بعلامات الاستفهام، لاسيما من المثقفين والسياسين والكتاب الذين يرفعون راية «من ليس معنا فهو ضدنا»... ويعني أيضا أن الكثيرين لن يرحبوا بك ولن يدعوك وحدك، وأن الاغتراب سيصبح ملاذاً لك.

وصلاح عبد الصبور منذ بداياته كان مبدعاً مستقلاً لم يتحمس في الخمسينيات لعبد الناصر كغيره من المبدعين، ولم ينتسب إلى تيار سياسي ما، فعاش مغضوباً عليه مشكوكاً في ولائه ومتهماً من القوميين واليساريين الذين رأوه مرة شاعراً متعالياً منعزلاً عن الجماهير وغير ملتزم، ومرة أخرى شاعراً وجودياً حزيناً ومهووساً بالبكاء، فكتب أحد كبار نقادنا دراسة عنه في الستينيات بعنوان «لماذا يبكي هذا الشاعر ونحن نبني السد العالي»، واتُهم بإفساد الشعر لأنه حاول توظيف لغة الحياة اليومية والاقتراب من هموم الناس ومعاناتهم. وأظننا نذكر معركته مع العقاد مقرر لجنة الشعر في ذلك الوقت بعدما أحال ديوان صلاح إلى لجنة النثر.

كأبي تمام والمتنبي والمعري، كان صلاح عبد الصبور شاعراً مفكراً مهموما بالإنسان وبقضايا الوجود فوظّف قدرته على الرصد والبحث والتأمل لفضح القبح والاستبداد والقهر وتشوهات الوجود ابتداءً من ديوانه الأول، وأحسبنا لم ننس قوله: الناس في بلادي جارحون كالصقور

غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة المطر

وضحكهم يئز كاللهيب في الحطب

ويقتلون يسرقون يشربون يجشأون

لكنهم بشر.

وأحيانا يسوقه التأمل إلى مشارق التفلسف حين يغوص في الأعماق مفتشاً عن المتوارى والجوهري والمسكوت عنه فيصيح:

«وهذا زمن الحق الضائع

لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله

ورؤوس الناس على أجساد الحيوانات

ورؤوس الحيوانات على أجساد الناس

فتحسس رأسك»

وأحيانا يفضي به التأمل إلى اكتشاف العجز وسطوته فيتشبث بالكلمة كصورة للوجود وحارس له، فيقول في إحدى قصائده:

«في قلب العاجز ماذا يلقي العاجز

ماذا يَهبْ العريان إلى العريان

إلا الكلمة»

وفي قصائد عديدة يلقي به التأمل إلى جحيم الوحشة والاغتراب واللا جدوى فيقف على ضفاف الموت مردداً «لا شيء يعينك لا شيء يعينك»، لكن ذلك الأسى لم يبتلعه كما يظن بعضهم ولم يشغله عن قضايا واقعنا وملاحقة القمع والفساد والاستبداد والتعذيب في المعتقلات والسجون، ويكفي أن نشير هنا إلى مسرحيته «مسافر ليل» وقول بطلها:

راجعنا كل ملف

سجلنا كل مكالمة تليفونية

صورنا كل خطاب

أمسكنا بالآلاف

عذبنا عشرين لحد الموت

وثلاثين لحد العاهة

وثمانين إلى حد الإغماء

والمتابع للمشهد الشعري في السنوات الأخيرة سيكتشف حضور صلاح عبد الصبور وظلال شاعريته التي امتدت وأثرت بعد وفاته على معظم الأجيال، فقد بنى حداثته على الرصد والتأمل، والسرد، وتوظيف الحس الساخر والمفارقة، والإيجاز، وبلاغة المشهد، واقتناص المتوارى والجوهري، والاحتفاء باليومي والعادي وبالخبرات الشخصية، وقد راجت هذه التقنيات وشاعت في قصيدة النثر ومعظم قصائد الشعراء الشبان.

من شعرائنا الرواد كان صلاح عبد الصبور الأقرب إليّ ربما لأنني انحزت منذ البداية إلى الشعراء المفكرين، وربما لأنه تحمس لي وقدمني كشاعر في بداية السبعينيات، وظل بحميمية يتابع ويوجه ويلح عليّ كلما قلّت قصائدي الجديدة لكي استبدل بمهنة الصيدلة وظيفة ما في وزارة الثقافة، حتى أهب الشعر معظم طاقتي ووقتي، وتصاعد إلحاحه بعدما شغل منصب رئيس الهيئة العامة للكتاب، وهو المنصب الذي ساقه إلى تلك المحاكمة العبثية قبل ستة وعشرين عاماً.

* شاعر وكاتب مصري

back to top