تتلخص المعارك الفكرية في مصر في القرن العشرين بنتائج عدة منها: أن المحاولات التي رمت إلى مواجهة الفكر بغير الفكر انتهت إلى عكس ما قصد أصحابها، و أن الحكم على كثير من الأفكار التي دارت حولها تلك المعارك، لم يخل من الضغائن الشخصية، وأن التعامل مع نوايا من أثاروا تلك المعارك الفكرية على أنها «خبيثة» مسألة تفتقد إلى الدقة، وأن كثيراً من أصحاب هذه الآراء حادوا عنها.من يمعن النظر في المعارك الفكرية التي شهدتها مصر على مدار القرن العشرين يخرج بنتيجة عريضة، تلخص المشهد العام للنزال الفكري الذي شحذ الهمم وأجلى العقول وألهب الحناجر وأوغر الصدور، وهي أن التحديات التي طرحها أصحاب الأفكار «غير المألوفة» كانت دوماً أكبر من الاستجابات التي جاد بها من تصدوا لتلك الأفكار ومنتجيها، ليس لأن أتباع الفريق الأول أقوى حجة وأنصع برهانا وأثبت مراساً وأسلس عرضاً، بل لأن أغلب أنصار الفريق الثاني لم يحسنوا اختيار أداة النزال، مما قاد في النهاية إلى ترك هذه المعارك من دون حسم، وجعل توابعها تتجدد من آن لآخر، حتى مع حلول القرن الحادي والعشرين، وجعل كثيرين يشعرون أننا نحرث البحر أو نتحرك في المكان نفسه.
وتحت هذه النتيجة الكلية هناك استنتاجات فرعية، لا تخطئها عين بصيرة، ولا يهملها عقل فهيم، يمكن سردها على النحو التالي:
1 - كل المحاولات التي رمت إلى مواجهة الفكر بغير الفكر انتهت إلى عكس ما قصد أصحابها. فالكتب التي حوربت إما باتهام أصحابها بالكفر والمروق أو الخيانة والعمالة، وكانت الدوافع السياسية أكبر من العناصر الفكرية في التصدي لها، باتت أكثر شهرة وأوسع رواجاً وبدا أصحابها «أبطالاً» حتى في نظر بعض العوام، وحصدوا من المكانة ما لم يكن بوسعهم أن يبلغوا لو ظهر من يفند أفكارهم -وكثير منها متهافت الصنعة ضعيف البنيان- عن طريق الرأي العلمي، الذي يستخدم أدوات البحث الحديثة، وينطلق من اقتناع تام بأن الطريق أمام البحث المنهجي يجب أن يكون عريضاً، خالياً من أي عثرات.
2 - إن الحكم على كثير من الأفكار التي دارت حولها تلك المعارك، لم يخل أحيانا، من التربص الذي صنعته الضغائن الشخصية، والسعي إلى تصفية الحسابات، والانتصار للمصالح الضيقة، حتى لو كان هذا على حساب الحق والحقيقة.
3 - إن التعامل مع نوايا من أثاروا تلك المعارك الفكرية على أنها «خبيثة» على الدوام، مسألة تفتقد إلى الدقة، وتحتاج إلى مراجعة تامة، وتتطلب تفاديها مستقبلا. فبعض هؤلاء وقع ضحية لنقص المعلومات وتشويهها أو التأويلات الخاطئة للنصوص، أو التسرع في إصدار الأحكام. وبعضهم أراد أن يدافع عن الإسلام فراح يجتهد، وكان يجب التعامل مع ما أنتجه على أنه «اجتهاد خاطئ» وليس مؤامرة لتشويه الإسلام أو النيل من الهوية المصرية. وبعضهم كان يرمي إلى منع آخرين من استغلال الإسلام في تحصيل مكانة سياسية أو مكاسب مادية، وبعضهم أراد أن يلقي حجراً في بحيرة الفقه الراكدة ليمنعها من التعفن، بفعل الفجوة الزمنية الواسعة بين تخرج الأحكام وحركة الواقع المعيش. وهناك من كان فيه علة من نقص فأراد أن يلفت الانتباه إليه فتجرأ على العقيدة، وصدم الناس في دينهم، واتبع مبدأ «خالف تعرف»، طارحاً أفكاراً غريبة لا دليل عليها، وليس بوسعها أن تصمد أمام أي حجة.
4 - كثير من أصحاب هذه الآراء حادوا عنها، بعضهم انقلب عليها مئة وثمانين درجة، مثل خالد محمد خالد، الذي ألّف كتاباً بعنوان «دين ودولة» تراجع فيه تماماً عما جاء في كتابه «من هنا نبدأ» من اقتناع بفصل الدين عن الدولة، وبعضهم راح يعدل جزئياً في أفكاره مثل طه حسين، الذي أعاد طبع «في الشعر الجاهلي» بعد أن حذف منه ما أغضب الناس، لكنه لم يفعل الشيء نفسه حيال كتابه الآخر «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي كانت نقطة الشد والجذب فيه تدور حول «الهوية» وليست «العقيدة». أما منصور فهمي فصدمه ما قوبل به من «استهجان اجتماعي» فراح يعيد قراءة المراجع التي اعتمد عليها في أطروحته للدكتواره عن «المرأة في الإسلام» فاكتشف أنه لم يتأن في الإحاطة بكل ما جاء به النص الإسلامي من قرآن وسنّة، وما أنتجه الفقهاء في هذا الشأن، فلما أحاط علماً بكل ما يتعلق بموضوع بحثه، غيّر أفكاره، وتحوّل إلى الدفاع عن الإسلام، لكن هذا لم يمنعه أن يظل حتى آخر أيام عمره غاضباً من عدم توافر حرية الفكر وحق الاجتهاد. وهناك من أصرّ على موقفه حتى آخر أيام حياته، مثل الشيخ علي عبد الرازق، الذي بدا واثقاً مما انتهى إليه في كتابه الصغير الأثير «الإسلام وأصول الحكم».
* كاتب وباحث مصري