Ad

لا يجوز في رفع الحصانة القضائية أن يقع إفراط أو تفريط، لأن في ذلك تجاوزا للضرورة، وفق المفهوم السابق دفع الضرر أو الخطر.

تناول مقالي الاثنين الماضي المفاهيم والأحكام الدستورية للحصانتين، ونستكمل في هذا المقال الأحكام الشرعية للحصانة القضائية، بدءاً من مقدمة ابن خلدون التي يقول فيها إنه «في الخلافة ترجع أحوال الدنيا كلها عند الشرع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة»، ويخضع الحاكم والدولة والهيئات التشريعية لقواعد أساسية في نصوص الدساتير مستمدة من القرآن والسنة، ومن هذه القواعد مبدأ المساواة أمام القانون، والذي لا يعرف التفرقة أو التمييز بين أفراده، في قوله تعالى «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير»، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى»، ويقول أيضاً «الناس سواسية كأسنان المشط»، ولا تشمل المساواة أمام القانون والقضاء الرعية وحدها، بل تشمل آل النبي والولاة، لا تفريق بين شريف ووضيع أيضاً، وقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) «لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها». وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رجلاً من أهل مصر شكا ابن عمرو بن العاص أنه ضربه، فدعا الفاروق عمر، عمرو بن العاص وولده، وأمر المصري بضرب ابن الأكرمين، ثم خاطب عمرو بن العاص قائلاً له «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، أي أنه لا حصانة لمخلوق أمام القضاء.

إلا أن جانباً من الفقه الإسلامي يرى العمل بالمصلحة عندما يؤدي القياس في الأمور التي لم يرد بشأنها نص في القرآن أو السنة إلى حرج أو مشقه، وفي رأييّ أن الحصانة القضائية للنواب تقوم على منع الحرج أو الضرر الذي تتسبب فيه الدعاوى الكيدية التي يمكن أن تقام ضد النائب، لمنعه من أداء واجبه النيابي نحو أمته، وهو ما يقتضي حماية هذه المصلحة للضرورة، والقاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات، بشرط أن تقدر الضرورة بقدرها، وأن يكون بقاء هذه الحصانة بالقدر اللازم لدفع هذا الضرر أو الخطر الذي تتعرض له الممارسة البرلمانية، عندما يتعرض النائب لدعوى كيدية، فلا يجوز في رفع الحصانة القضائية أن يقع إفراط أو تفريط، لأن في ذلك تجاوزا للضرورة، بالمفهوم السابق، وهو دفع الضرر أو الخطر.

ويعتبر الأمر كذلك عندما يتم تصنيف النائب – المطلوب رفع الحصانة عنه – بحسب انتمائه السياسي، أو عندما يخوض البرلمان في قيام الجريمة أو توافر أو عدم توافر الأدلة، أو عندما ترفع الحصانة لمخالفات بسيطة لا تستدعي رفع الحصانة أصلاً. ويسجل للمجالس النيابية المصرية قبل ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952، أن هذه المجالس لم تخضع قرارات البت في رفع الحصانة البرلمانية للمواءمات السياسية، فقد رفعت الحصانة عن أعضاء في الحزب الحاكم، الذي كان يملك الأغلبية البرلمانية، للالتزام الكامل والدقيق لهذه المجالس بالمفهوم الصحيح للحصانة القضائية والحرص على عدم الإخلال بالمساواة أمام القضاء، إلا أن ما يؤخذ على هذه التطبيقات أنها أفرطت في رفع الحصانة في بعض الأحيان عندما رفعت الحصانة عن النائب المرحوم عبد الستار بك الباسل لتحصيل غرامة مخالفة سيارة قدرها خمسون قرشاً، لم يكن يعلم بها النائب، وعن المرحوم أحمد بك القرشي عضو مجلس الشيوخ لأن سائق سيارته لم يكن يحمل أثناء قيادته رخصة القيادة، ومن الطريف أن كليهما كان وفدياً، وأن حزب «الوفد» هو الذي كان يملك الأغلبية البرلمانية في المجلسين.

كما يسجل لمجلس الشعب المصري برئاسة الدكتور/ فتحي سرور أنه رفع الحصانة القضائية عن بعض أعضاء الحزب الوطني الحاكم في الآونة الأخيرة، من بينهم الدكتور/ هاني سرور المتهم في قضية أكياس الدم الفاسدة.

كما خاض بعض النواب في مجلس الأمة الكويتي في شرعية تجريم الانتخابات الفرعية، لعدم قناعتهم به، عند البت في طلبات رفع الحصانة القضائية عن بعض النواب المتهمين بهذا الجرم، وصوتوا برفض رفع الحصانة على هذا الأساس، وهو ما لا يجوز طالما أن المجلس لم يلغ هذا القانون.

كما كان العامل السياسي مرجحاً لقرار الجمعية الوطنية التركية في عهد حكومة تانسو تشيلر، عندما رفعت الجمعية الحصانة عن ستة نواب من حزب الديموقراطية المؤيد للأكراد، كانت الواقعة التي نسبت إلى اثنين منهما، أنهما كانا ضمن وفد برلماني في زيارة في باريس للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، وأنهما تحدثا مع الرئيس عن التهديدات التي يواجهها الحزب، فوجه إليهم المدعي العام الاتهام بالنزعة الإنفصالية والمساس بوحدة الدولة.

كما رفعت الحصانة في مجلس العموم البريطاني عن محمد سرور أول عضو مسلم في المجلس، لاتهامه بتحريض بعض المواطنين على تزوير البطاقات الانتخابية، وهو اتهام ثبتت بعد ذلك براءته منه أمام المحكمة العليا بأدنبرة بعد تراجع الشهود عن أقوالهم، وعدم تعرفهم عليه في المحكمة.