اتخذت القوات الإسرائيلية من المدنيين بديلاً عن مقاومين عجزت آلتها العسكرية عن بلوغهم والظفر بهم فأثخنت، أشد الإثخان، في ذويهم وبني شعبهم من الأبرياء المدنيين، وتوسلت ذلك الإجرام في حقهم أداة لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية.في تأبينه لضحايا عملية القدس، ذهب الحاخام يعقوب شابيرا، إلى أن منفذ تلك العملية «استهدف كل من يعيش في مدينة أورشليم المقدسة»، فقال بذلك كلاماً صحيحاً، أقله من حيث الوقائع، إذ لا غرو في أن منفذ العملية لم يضرب «الجزء» (المتمثل في طلاب المدرسة الدينية إياها أو من قيّض له إصابته منهم) إلا لأنه كناية عن «الكل»، أي سائر يهود إسرائيل الذين ماهى بينهم وبين دولتهم، وما تقترفه في حق فلسطينيي غزة حربا شاملةً، بل وما اقترفته في حق الفلسطينيين منذ أن وُجدت.
أراد الحاخام، من دون شك، من كلامه ذاك أن يؤكد انتساب تلك العملية إلى «الإرهاب» سويّةً ومنطقاً وتنفيذاً، معبراً بذلك عن رأي لا ينفرد به، بل هو صلب الرأي الإسرائيلي العام وجزء لا يستهان به، لأنه الحائز على الغلبة والمؤثر في مجريات المسألة الفلسطينية حلاً أو اطّرادَ تأزيم، من الرأي العام الدولي. لنجارِه في ذلك، على سبيل الجدَل مثلاً، ممتنعين حتى عن الاكتراث باستدراك، قد يقول به قائل، مفاده أن صفة «المدنيين» قد لا تصحّ تمام الصحّة على سكان القدس من الإسرائيليين، طالما أن المدينة محتلّة إن بمقاييس التاريخ وإن في نظر القانون الدولي، لم يُحسم أمر السيادة عليها، ما من شأنه أن يدرج سكانها أولئك في عداد المستوطنين لا أكثر، مثلهم في ذلك مثل سواهم في القطاع سابقاً وفي الضفة إلى يوم الناس هذا... وجودهم فعل عدائي واستهدافهم مشروع.
نجاري الحاخام المذكور في كلامه ذاك ونعتبره، من حيث المبدأ، تعريفاً، لم يكن البتة السبّاق إلى صياغته وابتداعه، لـ«الإرهاب»، إذ ما ماهية هذا الأخير إن لم يكن «استخدام العنف، تقتيلاً وترويعاً، في حق المدنيين من أجل بلوغ هدف، عسكري أو سياسي»؟.. كل الشين المرتبط بـ«الإرهاب» يعود إلى وظيفته تلك، إلى استهدافه المدنيين وجعل المجال العام ساحة حرب بلا تمييز، أي طمسه، استهدافاً وقتالاً، لكل فارق بين المدني والعسكري.
غير أن المشكلة التي لم يفكر فيها الحاخام، والآخذون برأيه في إسرائيل وخارجها، في اعتمادهم ذلك التعريف، إذ لو فعلوا لتريثوا في اعتماده ولترددوا، أنه ينطبق تماماً على ما أقدمت عليه الدولة العبرية في هجمتها الأخيرة على غزة، فالهجمة تلك كان وقودها الناس، 120 ضحية في أيام معدودات، ثلثهم من الأطفال، ناهيك عما نال البيوت وسائر مرافق الحياة، تقتيلاً وتدميراً لا ينشدان غير الترويع. لقد اتخذت القوات الإسرائيلية من المدنيين بديلاً عن مقاومين عجزت آلتها العسكرية عن بلوغهم والظفر بهم فأثخنت، أشد الإثخان، في ذويهم وبني شعبهم من الأبرياء المدنيين، وتوسلت ذلك الإجرام في حقهم أداة لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية: وقف إطلاق الصورايخ على التجمعات الإسرائيلية، ودفع الفلسطينيين إلى الضيق ذرعاً بحركة «حماس» وحكومتها علّهم يرتدون ضدهما... وهكذا، إن نحن طبقنا على تلك الأعمال ذلك التعريف «التقني»، إن جازت العبارة، للإرهاب، لا ذلك الوجداني الشعاراتي الذي درجت عليه الخطابة العربية، تبدّت ، بكل موضوعية وبتوصيف بارد إرهاباً خالصاً، ما دام المدنيون ليسوا ضحاياها عرَضا، كما يحصل في المواجهات غالباً، بل ضحاياها قصداً وربما حصراً.
لكن حاخامنا المذكور (وهو هنا لا يهمنا إلا ككناية عن الإسرائيليين أو سوادهم الأعظم، بل وعن مجمل الضالعين في «الحملة الكونية ضد الإرهاب»، ما يشمل ساسةً وإعلاماً ورأياً عاماً...) لا يرى ذلك ويذهل عنه ذهولاً تاماً، وهو ذهول يشي، بوضوح فصيح بليغ، عن مكمن اللّبس في «الحملة الكونية ضد الإرهاب» تلك التي احتلت فيها الدولة العبرية موقعاً ريادياً بعد أن ألحقت صراعها ضد الفلسطينيين بتلك الحملة وعدته فصلاً من فصولها.
يتمثل مكمن اللبس في أن الحملة تلك، منذ أن أطلقتها إدارة الرئيس بوش استراتيجيةَ تعاطٍ مع العالم الخارجي، أي ذريعة نفوذ تتجاوز مجرد القصاص من تنظيم «القاعدة» ومن نظام «طالبان» الذي آواه وحضنه، قد حوّلت محاربة الإرهاب من مقاربة إجرائية عسكرية أو أمنية، قد لا تعوزها المبررات في ذاتها في حالات بعينها، إلى ضرب من أيديولوجيا، واستطراداً إلى «معيار» لتعيين وتحديد العدو والصديق والتمييز بينهما. ولأن «مكافحة الإرهاب» قد اتخذت ذلك المنحى واكتسبت تلك الوظيفة، فإن وصم عمل من الأعمال القتالية بالإرهاب أو تبرئته منه، لا يتوقف على طبيعته، شأن مطابقته من عدمها للتعريف الآنف ذكره على سبيل المثال، بل على هوية فاعله وموقعه على خريطة العداء والصداقة وتوزيع النفوذ.
وذلك انزلاق خطير بالغ الخطورة، كانت فلسطين مسرحاً لأفدح تجلياته حيث استبيح شعبها وقضيته باسم محاربة الإرهاب، منذ حصار ياسر عرفات في مقاطعته في رام الله حتى مجازر غزة الأخيرة...
* كاتب تونسي