بينظير... أزمة الدين والدولة!!
جاءت بينظير من رحم الصراع ومن أسرة مزقتها النزاعات الداخلية والخارجية، فمن أب أعدمه ضياء الحق إلى أخ مقتول بظروف غامضة إلى أخ آخر رفع السلاح وقتل كذلك، حتى جاء دورها في السياق نفسه، فليرحمها الله واسع رحمته، ودخلت باكستان مجدداً في نفق مظلم.
جاء اغتيال بينظير بوتو في سياقه، ولم يكن مفاجئاً، لكن بُعده الرمزي كان قاصماً للظهر، فكانت وكأنها عروس، قد زُفت إلى موتها، فحالما عادت إلى باكستان فجّر انتحاريان نفسيهما وسط جموع الناس ليقتلوا ويجرحوا ما يزيد على 400 شخص، وقبل أيام قليلة وفي مناسبة عيد الأضحى فجّر انتحاري آخر نفسه في مسجد والناس تهنئ بعضها بالعيد ليقتل من المسلمين، وفي المسجد، ما يزيد على 50 شخصاً.قصة بينظير ربما تحكي أزمة باكستان، بل هي تحكي أزمة الدين مع السياسة والدولة، والتي ظنّ البعض أن حلها يتم في حفظ بضع آيات والسلام.التقيت بينظير وهي رئيسة للوزراء في فترتها الأولى عام 1988، وكنا ضمن فريق دولي لتقصي الحقائق حول انتهاكات حقوق الإنسان هناك، وكانت حينها قد ورثت تركة ثقيلة خلفها الجنرال المقتول ضياء الحق، كان العبث الذي أوجده الدكتاتور ضياء الحق في مؤسسات الدولة غير مسبوق، وكانت السجون ملأى بالمعتقلين، والأغرب أن ضياء الحق خلق منظومة تشريعية ثلاثية لم نجدها في أي بلاد في العالم، فقد كانت هناك ثلاث منظومات قانونية تحكم البلاد، القوانين العسكرية، وقوانين الشريعة، والقوانين المدنية، مما أوجد حالة من الفوضى والعبثية لا أول لها ولا آخر.كان لقاءً طويلاً أكدت فيها الشابة المتحمسة بينظير أنها تسعى إلى تغيير كل ذلك، ويبدو أن الحماس وحده لم يكن كافياً، وعلى الرغم من إحاطتها بفريق من الشباب المتمثّل بوزير الداخلية ووزير العدل، والخبرة ممثلة بالنائب العام المعتق يحيى بختيار فإن التركة يبدو أنها كانت أثقل وأكثر تعقيداً وذهبت بينظير بعد سنتين، وعادت باكستان إلى دوامة لا نهاية لها، وانشغلت في تعزيز نفوذ «طالبان» ودخلت على الخط _كما كانت دوماً_ في الصراع الدولي والمحلي والإقليمي. وهكذا كان ارتباط الدولة في باكستان بالدين بالسياسة «بطالبان» «بالقاعدة» ثم بالإرهاب كعناصر أساسية.عندما استقلت الهند وقرر بعض سياسييها المسلمين إنشاء وطن للمسلمين، ظنّ البعض أو تراءى لهم أن خلط السياسة بالدين بالدولة أمراً سهلاً، ولم يطل بهم المقام حين تأسست الدولة ليكتشفوا أن الأمر كان أكثر تعقيداً مما توقعوا، فلم تكمل الدولة المسلمة خمسة وعشرين عاماً حتى وجدناها تنقسم على نفسها وتصبح دولتين: باكستان وبنغلاديش، وكلتاهما دولتان إسلاميتان، كما لم تستقر باكستان إطلاقا، حيث نخرتها الانقلابات العسكرية وكأنها أصبحت قاعدة للحالة السياسية وليست الاستثناء. وبالمقابل استمرت الهند دولة مستقرة سياسيا يحكمها الحزب الفائز بالانتخابات ويعيش فيها ما يزيد على 150 مليون مسلم، ويحكمها نظام فدرالي يعطي قدراً عالياً من الحكم المحلي لكل ولاية حيث كل الديانات تعيش هناك.لماذا عادت بينظير إلى باكستان؟ أخبرني وزير خارجية باكستاني سابق منذ فترة بأنه كان قد أبلغها هاتفياً بأنّ لديه معلومات بأنه سيتم اغتيالها بواسطة حزام ناسف عند عودتها، وحين سألته، ما ردها قال: إنها أكدت أن الشعب الباكستاني يكنّ لها حباً كبيراً، وأنها تراهن على ذلك. وعندما وصلت كان هناك انتحاريان قتلا وجرحا ما يزيد على 400 شخص، ولكنها نجت... للأسف كانت تلك مجرد محاولة.عادت بينظير للحكم مجدداً عام 1996، ومع تغير الأوضاع، وجدناها قد تخلت عن السذاجة، وربما أصبحت أكثر إدراكاً لمعطيات السياسة، ولكن ما أحاطها من اتهامات باستغلال النفوذ لاسيما ما خص زوجها كان كافياً لإزاحتها مرة أخرى.وقد قدر لنا أن نلتقي أكثر من مرة خلال السنوات الأخيرة، في ندوة أو محاضرة، كان واضحاً أنها تغيّرت كثيراً وأصبحت أكثر نضجاً، إلا أنها ظلّت واستطاعت أن تخلق من لاشيء رمزاً كان بالإمكان أن يجتمع حوله أغلبية الباكستانيين. جاءت من رحم الصراع ومن أسرة مزقتها النزاعات الداخلية والخارجية، فمن أب أعدمه ضياء الحق إلى أخ مقتول بظروف غامضة إلى أخ آخر رفع السلاح وقتل كذلك حتى جاء دورها في السياق نفسه، فليرحمها الله واسع رحمته، فقد تم اغتيال بينظير التي لا مثيل لها ودخلت باكستان مجدداً في نفق مظلم.هكذا جاءت عروساً لتصبح أول رئيسة للوزراء في دولة إسلامية، وهكذا ذهبت عروساً نحرها التطرّف والبغضاء والكراهية، فليفرح أولئك المتطرفون بذبحهم وبالدماء البريئة التي سالت ومازالت تسيل.