بوتن والموقف الأخير
من الواضح أن سياسة بوتن الخارجية ترمي إلى استفزاز النـزعة الشعوبية والغلو في الوطنية، وربما ينجح بوتن في مهاجمة الأجانب في تعزيز حكمه الاستبدادي، إلا أن هذا لن يتأتّى بلا ثمن، إذ إن الولايات المتحدة والغرب، بل جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، أصبحت تشعر بالغربة بسبب تكتيكات بوتن العدائية.
![بروجيكت سنديكيت](https://www.aljarida.com/uploads/authors/176_1682431716.jpg)
وعلى هذا فإن وجهات نظر بوتن في ما يتصل بحلف شمال الأطلنطي لا تحتاج إلى توضيح، فهو سيضع القمة بالكامل في موقف مخزٍ من خلال سعيه إلى إرهاب عملاء الاتحاد السوفييتي القدامى في قاعة الاجتماعات.إن مثل هذا الأسلوب العدائي لا يفيد السياسة الخارجية لأي دولة إلا إلى حد معين وهو الحد الذي تجاوزه بوتن منذ أمد بعيد، ففي مستهل الأمر بدا وكأنه دبلوماسي قدير وعنصر توفيقي بارع، ولكن منذ الخطبة العصماء التي ألقاها في ميونيخ، بدأ بوتن في توحيد الغرب ضد روسيا.وفي خطبته التي ألقاها في التاسع من مايو 2007 احتفالاً بذكرى انتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية، شبه بوتن الولايات المتحدة بألمانيا النازية: «إن من واجبنا أن نتذكر أن أسباب نشوب أي حرب تكمن في المقام الأول في الأخطاء والحسابات المغلوطة التي تتم في وقت السلم، وأن هذه الأسباب لها جذورها الخاصة الممتدة عبر إيديولوجية المواجهة والتطرف، ومن الأهمية بمكان أن نتذكر هذا اليوم، لأن هذه التهديدات لم تتضاءل، بل انها تتحول وتبدل هيئتها الخارجية، وهذه التهديدات الجديدة تُـظهِر نفس القدر من الاحتقار للحياة البشرية ونفس الطموح نحو تأسيس حق الإملاء الشامل على العالم أجمع، تماماً كما كانت الحال تحت حكم الرايخ الثالث».الحقيقة ان الساسة الجادين لا يتحدثون بهذه الطريقة، فهذه مجرد نوبات غضب تشبه ما يتلفظ به أصدقاء بوتن القلائل المتبقين هوغو تشافيز في فنزويلا، ومحمود أحمدي نجاد في إيران، وألكساندر لوكاشينكا في بيلاروسيا. وفي الداخل يرتفع مستوى الوعي بأن بوتن يتسبب في إلحاق الضرر بمصالح روسيا بإهانة وترهيب الجميع، فهو يعزل بلاده بين منبوذي العالم، والأسوأ من ذلك ان إنجازاته ضئيلة للغاية.حين تولى بوتن الرئاسة في عام 2000، أعلن أن التقارب بين روسيا ومنظمة التجارة العالمية على رأس أولوياته في ما يتصل بالسياسة الخارجية، بيد أنه فشل في ذلك بسبب استسلامه لأنصار الحماية ومصالحهم المثيرة للشفقة، ففرض بذلك حظراً على الأخشاب القادمة من فنلندا والسويد، وحظراً على الأسماك القادمة من النرويج، والعديد من أشكال الحظر على المنتجات الزراعية القادمة من لتوانيا، وأوكرانيا، ومولدوفا، وجورجيا، وغيرها.إن السياسة الخارجية التي تنتهجها روسيا تركز على مصالح المؤسسات التي تسيطر عليها الدولة، وأبرزها غازبروم، التي أتمت عدداً من الاتفاقيات مع العديد من الدول والشركات الأجنبية فأبرمت معها عقوداً احتكارية، إلا أن كل كيلومتر من خطوط أنابيب غازبروم يتكلف ثلاثة أمثال تكلفة الكيلومتر من خطوط الأنابيب التابعة لأي شركة غربية مشابهة، وذلك بسبب «التسرب» و«النفايات». ويبدو أن الهدف الأساسي الذي ترمي إليه السياسية الخارجية الروسية يتلخص في استنزاف الشركات الروسية التابعة للدولة لمصلحة مسؤولي الكرملين، إلا أن العملاء لا يثقون في الممولين الذين يقطعون الإمدادات ويرفعون السعر بشكل غير متوقع ويصادرون أملاك المنافسين، ويسمحون للإنتاج بالتناقص على النحو الذي رأيناه من غازبروم والشركات الروسية الأخرى المملوكة للدولة، ونتيجة لهذا، بدأت صادرات روسيا من الغاز إلى أوروبا في الانحدار. من الواضح أيضاً أن سياسة بوتن الخارجية ترمي إلى استفزاز النـزعة الشعوبية والغلو في الوطنية، وربما ينجح بوتن في مهاجمة الأجانب في تعزيز حكمه الاستبدادي، إلا أن هذا أيضاً لن يتأتى بلا ثمن، إذ إن الولايات المتحدة والغرب، بل وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، أصبحت تشعر بالغربة بسبب تكتيكات بوتن العدائية، والعديد منها يسعى الآن إلى حماية الذات من أشكال الحظر التي تمليها النزوات الروسية لا أكثر على سبيل المثال، من خلال البحث عن موارد بديلة للطاقة.يزعم بعض المراقبين أن روسيا نجحت في تحسين علاقاتها بالصين أثناء حكم بوتن، إلا أن ذلك كان على حساب الانقياد لمطالبة الصين بجزيرتين ضخمتين متنازع عليهما، واللتين كانتا السبب في الحرب التي اندلعت بين البلدين في عام 1969. كان هدف بوتن الظاهر يتلخص في تأمين تمويل شراء شركة روسنفط لحقل نفط يوغانسك، والذي كان يشكل جزءاً من أملاك شركة يوكوس المصادرة، إلا أن الصين أيضاً تشعر بالانزعاج من بوتن، وكانت حريصة على إرسال الإشارات الودودة إلى زعماء جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، مثل يوليا تيموشينكو في أوكرانيا.يشعر القوميون الروس بالغضب أيضاً بسبب سياسة بوتن الخارجية، وذلك لأنها أدت إلى عزل جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة وأضعفت روسيا على الصعيد العسكري، وكان المجلس القومي للاستراتيجية الوطنية قد نشر تقريراً مزعجاً للغاية عن اضمحلال قوة روسيا العسكرية في عهد بوتن. ويزعم التقرير أن التجهيزات العسكرية والدفاعية في روسيا قد انحدرت بصورة حادة، على سبيل المثال، لم تشتر المؤسسة العسكرية سوى ثلاث حاملات طائرات منذ عام 2000.الحقيقة أن تكاليف التسليح ارتفعت بحدة، ولكن ذلك لم يحدث إلا لأن أصدقاء بوتن القدامى من هيئة الاستخبارات والأمن الداخلي (KGB)، الذين يحتكرون إنتاج السلاح، قد سرقوا كميات هائلة من السلاح، وعلى الرغم من هذه النقص والعجز في الإنفاق، يبدو بوتن مهووساً بالإيماءات والتلميحات الاستفزازية غير ذات الجدوى، مثل استئناف تجارب قاذفات القنابل النووية بعيدة المدى بالقرب من السواحل الأميركية.في أوائل التسعينيات، كان العديد من الغربيين والروس يريدون لروسيا أن تصبح عضواً كامل العضوية في كل من الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلنطي، على شرط أن تتحول روسيا إلى النظام الديموقراطي الكامل، ولكن من المؤسف أن الغرب لم يقدم مثل ذلك العرض قط، كما ضلت الديموقراطية في روسيا الطريق.من الأهمية بمكان أن تحصل روسيا على فرصة جديدة، ولكن بعد رحيل بوتن. فالحقيقة أن روسيا لا تعادي الغرب، بل إن فلاديمير بوتن هو العدو الحقيقي للغرب.*أندرس آسلوند | Anders Åslund ، كبير زملاء معهد بيترسون للاقتصاد الدولي وهو مؤلف كتاب «ثورة روسيا الرأسمالية: لماذا نجحت إصلاحات السوق وفشلت الديموقراطية».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»