Ad

كتاب «أفواه الزمن» للكاتب الأرغواني الكبير «إدواردو غاليانو» نصوص، مهما اختلفت أو تباعدت، تتحول بقلمه إلى «مرآة للسياسة الدولية» بما تعكسه من صراع أزلي غير متكافئ بين الشمال والجنوب، ومن دناءه مستمرة لاستعمار خبيث يغير أسماءه وأثوابه بصورة متسارعة.

في كتاب «أفواه الزمن» للكاتب الأرغواني الكبير «إدواردو غاليانو» تبدو النصوص متباينة الأنواع والمصادر، فهي قد تكون خبراً نشرته الصحف، أو حديثاً عرضه التلفزيون أو تحدثت عنه الإذاعة، أو طرفة رواها صديق، أو فقرة مقتطعة من كتاب، أو لمحة من سيرة، أو مشهداً عابراً مر به شخص معروف، أو حكماً أصدرته محكمة ما، أو فكرة خطرت لغاليانو نفسه... إلى غير ذلك من المصادر التي يصعب إحصاؤها إزاء أكثر من ثلاثمئة نص ضمها الكتاب.

لكن تلك النصوص، مهما اختلفت أو تباعدت، تتحول بقلم غاليانو إلى «مرآة للسياسة الدولية» بما تعكسه من صراع أزلي غير متكافئ بين الشمال والجنوب، ومن دناءه مستمرة لاستعمار خبيث يغير أسماءه وأثوابه بصورة متسارعة، عبر وسيط شيطاني دائم يغير، هو أيضاً، أسماءه وأثوابه، وهو ما نعرفه في صورته الراهنة باسم «الإعلام»!

لكن براعة الكاتب في كل هذا تكمن في نأيه عن تحويل الأدب إلى سياسة، وسعيه، بدلاً من ذلك، إلى تحويل السياسة إلى أدب، مما يضمن للاثنين خلودهما عبر الفن.

من خضم تلك النصوص، نلتقط هنا مجموعتين متباينتين من حيث النوع، لكنهما متصلتان جداً من ناحية المغزى، الأولى من مملكة الحيوان الأدنى المنطوية على البهائم والحشرات، والثانية من مملكة الحيوان الأرقى المنطوية على أسوأ حيوانات الأرض: الإنسان!

ومثلما رأينا في قصة الطفل الباكستاني محمد أشرف، الذي يصنع كرات القدم للعالم، ولا يعلم أن العبارة التي يلصقها عليها تقول: «هذه الكرة لم تصنع للأطفال»... نرى في «غانا» مشهداً تختلف البضاعة فيه، لكن المعنى نفسه يبقى كاملاً وصارخاً:

عمل طويل وشاق يؤديه منتج «الكاكاو»، ورحلة طويلة وشاقة يقطعها الكاكاو عبر البحر، ليعالج في مصانع كادبوري أو مارس و نستلة أو سواها، ليباع في متاجر العالم. ومن كل دولار يدخل الصندوق... تذهب ثلاثة سنتات فقط إلى القرى التي يأتي منها الكاكاو!

صحافي في تورنتو اسمه «ريتشارد سويفت» كان في واحدة من هذه القرى، في جبال غانا، جاب مزارع الكاكاو، وعندما جلس ليستريح، أخرج من جعبته بعض ألواح الشكولاته. لكنه قبل القضمة الأولى، وجد نفسه محاطاً بأطفال فضوليين. هؤلاء الأطفال لم يتذوقوا هذا «الشيء» قط... وقد فتنهم!

ذلك هو جوهر النص المسمى «سوق العولمة»، وهو لا يحتاج إلى أي شرح أو تعليق، لأن الحسرة الحارقة يمكنها أن تشرح نفسها ببلاغة منقطعة النظير.

ومن وراء سوق العولمة هناك حكومة، وهي حكومة غير مرئية، أعضاؤها يلبسون القفازات البيضاء والياقات المنشّاة. ومن مكمنهم الغامض يحددون نوع الإنتاج، ومكان السوق، وثمن البضاعة... ويكتبون في النهاية، على جلود أبناء الشقاء، أرقام فواتيرهم بالدم الخالص.

وغاليانو يسمى هذه الحكومة «حكومة العولمة» بدلاً من اسمها المعلن: «البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي». وهو بهذا لا يجنح للسخرية أو للتحوير، بل هو يصحح الاسم المغلوط ليس إلا.

يقول غاليانو: «مع غسق القرن العشرين، وغسق حياته، تحادث «جوليوس نيريري» مع المجتمع الدولي. أي أن مسؤولي البنك الدولي استقبلوه في واشنطن.

كان نيريري أول رئيس لتنزانيا، بعد نضال مرير ضد السلطة الاستعمارية، وكان قد آمن بالاستقلال، وأراد أن يكون أكثر من مجرد تحية للعلم.

(لماذا أخفقت؟)... سأله كبار الخبراء الدوليين.

وأجاب نيريري: الإمبراطورية البريطانية خلفت لنا بلاداً الجميع فيها أميون تقريباً، وكان هناك مهندسان اثنان واثنا عشر طبيبا فقط. وفي نهاية حكمي لم يعد هناك أميّون تقريباً.

وكان لدينا آلاف المهندسين والأطباء، أنا تركت الحكومة سنة 1985، وقد انقضت منذئذ ثلاث عشرة سنة، والآن تقلص عدد الأطفال كثيراً في المدارس، نحو الثلث، وصارت الصحة العامة والخدمات الاجتماعية في الحضيض لقد فعلت تنزانيا، خلال هذه السنوات الثلاث عشرة، ما طلب منها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أن تفعله لتحديث البلاد! وأعاد نيريري السؤال إليهم: لماذا أخفقتم؟!

ومن مملكة هذا الحيوان اللئيم الجبار المتنكر باسم الإنسان، نمضي إلى مملكة الحيوان التي لا تعرف التنكر، لنلتقط نماذج تتسم بالطرافة، وتنعقد في الوقت ذاته على معلومات صاعقة لم نعرفها أو نحفل بها من قبل، لسبب واحد وبسيط هو أن أبناء هذه المملكة لا يمارسون التزوير وبعبارة أخرى أنهم لا يملكون «إعلام» الإنسان الرذيل الحافل بالدعاية والادّعاء.

لنقرأ هذه القطعة الأدبية الطريفة عن الأسد والضبع، «الشعراء وفنانو الريشة والإزميل يحبون الأسد منذ الأزل، فهو يخفق في الأناشيد الوطنية، ويرفرف في الرايات، ويحرس قلاعاً ومدناً، لكن لم يخطر لأحد قط أن يغني للضبع، ولا أن يخلده في لوحة أو نحت، الأسد يمنح اسمه لقديسين وبابوات وأباطرة وملوك وأناس عاديين، لكن ليس هناك خبر عن شخص واحد سُمي أو سمى نفسه «ضبعاً».

وحسب ما يعرفه دارسو حياة الحيوانات فإن الأسد هو لبون لاحم من فصيلة السنوريات، ينصرف الذكر إلى الزئير، وتتولى الإناث الحصول على الطعام، وعندما يحضر الطعام، يأكل الذكر أولاً، وما يتبقى تأكله الإناث، وأخيراً... إذا بقي شيء في الطبق، يأكل الأشبال، أما إذا لم يبق لهم شيء... فليتخوزقوا!

وأما الضبع فهو لبون لاحم من فصيلة الضبعيات وله عادات أخرى مختلفة، فالسيد الشهم هو من يجلب الطعام، ويكون هو آخر من يأكل بعد أن يأكل الأطفال والسيدات.

من أجل مدح شخص نقول: «إنه أسد» ولكي نشتمه نقول: «إنه ضبع».

الضبغ يضحك لماذا يضحك ياترى؟!».

لندع هذين اللاحمين الضخمين ولنلتفت إلى كائن أصغر منهما حجماً وشأناً، يعرضه غاليانو لنا إمعاناً في التشفي... إنه الخفاش: «الكونت دراكيولا أكسبه سوء السمعة، ومع أن الوطواط «باتمان» قد فعل كل ما بوسعه في السينما أو القصص المصورة لتحسين صورته، فإن الخفاش مازال يثير الخوف أكثر من الحمد.

غير أن رمز مملكة الظلمات هذا لا يجوب الليل بحثاً عن رقاب بشرية ليمص دمها، الواقع أن الخفاش يقدم إلينا الجميل بمكافحة الملاريا، عندما يصطاد ألف بعوضة في الساعة، وهو من الشهامة بحيث يلتهم الحشرات التي تقتل النباتات، وعلى الرغم من افتراءتنا فإن مبيد الحشرات هذا لا يسبب لنا السرطان، ولا يتقاضى منا أي شيء مقابل خدماته»!

ولا يكتفي غاليانو بهذه الصفعة التي ترن على خد كبريائنا بل ينزل إلى أسفل سافلين إلى كائن آخر غير متوقع وغير داخل في أدنى حساباتنا ليعيّرنا به وليقزّم أمامه عمالقة القوة والجبروت والغطرسة.

يقول غاليانو: «البرغوث لا يتباهى. لا يرفع صواري عالية، ولا أبراجاً، ولا مسلات، ولا ناطحات سحاب، وهو كذلك لا يصنع بنادق طويلة، ولا مدافع ولا صواريخ.

البرغوث عاشق البرغوثة، لا يحتاج إلى أن يخترع أي رمز للعضو الذكري، لأن الرمز في عضوه: فطوله لا يقل عن ثلث جسمه، وهو أضخم حجم في مملكة هذا العالم كلّها، البشر الذكور محبو إصدار الأوامر والقتل، يخفون منذ آلاف السنين هذه المعلومة المذلّة».

ومن مثل هذه الصدمات هناك الكثير والكثير من «حاضنة الوعي» التي سماها غاليانو «أفواه الزمن» وهيّأ لنا نحن القراء أن ندخلها بإغراءات كبرى أولها المتعة وانعدام الملل، وآخرها تحفيز أذهاننا لإدراك حقيقة موقعنا ومواقع جلادينا على سطح هذا الكوكب المنكود.

* شاعر عراقي- تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية