لماذا يصمت العرب تجاه ما يجري للفلسطينيين؟
- 1 -
بلغ التنكيل بالشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة حدّه الإنساني الأقصى. وهذا التنكيل لم يبلغ حده الأقصى الآن فقط، ولكنه بلغ حدّه الأقصى عدة مرات، طيلة أكثر من خمسين عاماً من عمر القضية الفلسطينية. ولم يقتصر التنكيل بالشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة على إسرائيل المحتلة فقط، ولكنه تعدّاه إلى الفصائل الدينية والقومية الفلسطينية المسلحة التي ساهمت في التنكيل بالشعب الفلسطيني وقتله، كما يجري الآن في قطاع غزة، حيث من المنتظر أن تعلن «حماس» عن قيام «الخلافة الإسلامية الفلسطينية» أو «دولة طالبان الغزّاوية». فقد قالت الأخبار إن عناصر «حماس» تقود كوادر «فتح» في غزة إلى المساجد لـ «إعلان التوبة» و«العودة إلى الصراط المستقيم»، كما تم إغلاق محلات الأشرطة المسموعة والمرئية، وُفرض الحجاب والنقاب على النساء.من جهة أخرى، اعتبرت «حماس» بأنه قد تم تحرير غزة من «العلمانيين الفتحويين»، وهو ما يُعتبر التحرير الثاني بعد التحرير من الاحتلال الإسرائيلي، كما جاء على لسان سامي أبو زهري الناطق باسم «حماس». - 2 - لقد بذل العرب – وخاصة مصر والسعودية وقبلهما الكويت – كل ما يستطيعون لمساعدة الفلسطينيين على حل مشاكلهم ودفن خلافاتهم، والتقدم بقضيتهم. ولكن زعماء الفلسطينيين المرتهنين لجهات عربية معروفة لا يريدون هذا. وكانت آخر هذه المحاولات «لقاء مكة» الذي تعهد فيه الفلسطينيون بتشكيل «حكومة وحدة وطنية»، ولكن البون ظل شاسعاً والخلاف عميقاً، بين علمانية «فتح» وأصولية «حماس»، وبين موالاة «فتح» للأنظمة المعتدلة كمصر والسعودية، وبين موالاة حماس للأنظمة المتطرفة. زيادة على ذلك، فإن الخلاف بين «فتح» و«حماس» ليس شخصياً بين محمود عباس وخالد مشعل، ولكنه خلاف أعمق من ذلك، يصل إلى جذور كيفية التعامل مع الواقع السياسي الإقليمي والدولي المُعاش. وعموماً فالفصائل الدينية الفلسطينية المسلحة بما فيها «حماس» لا تريد الحل السلمي التفاوضي مع إسرائيل. وهي تعلم إن لجأت إلى الحل السياسي التفاوضي، فسوف تخسر رصيدها في شارع الغوغاء والدهماء الفلسطيني، وسوف تنتهي إلى محاريب المساجد وليس إلى منابر السياسة، حيث لا تملك من خطابها السياسي إلا هذا الرصيد الدموي الذي تبدده يوماً بعد يوم من أجل البقاء في السلطة الدينية الفلسطينية المسلحة، والتي هي الحاكم الفعلي الآن للشارع الفلسطيني المتشنج والعاطفي والثأري الدموي، حيث تعطل العقل العربي ومن بعده العقل الفلسطيني، وأصبح العرب خُرساناً، ألسنتهم الطلقة والقنبلة ومدافع الهاون والأر بي جي والسكين، ويتكلمون بأصابعهم المشتعلة لا بألسنتهم العاقلة، وبصوت عال. وهذا الصوت العالي، أصبح صوتاً مدمراً لهم وللعالم أجمع، كما نرى الآن داخل العالم العربي وخارجه. - 3 - لقد ساعد إعلام الدهماء والغوغاء الذي يخاطب العواطف، ولا يخاطب العقل ويُمنّي بالأحلام ولا يَعدُ بالحقائق، وهمّه الأول والأخير كسب رضا وإقبال المتلقين من الدهماء والغوغاء التي لم تجد مرشداً لها يدلها على طريق الصواب والعقل ...هذا الإعلام عمل على قطع اللسان العربي السياسي ورميه للكلاب والغربان القادمين من أفغانستان، واستبداله بالأصابع الدينية والقومية الأصولية الملتهبة والمشتعلة التي تحرق الآن العالم العربي من يساره إلى يمنيه، وتتكلم بصوت عال. وساعده على ذلك أنه يخاطب شعباً من البداوة لا علم لهم بالسياسة، ولا تاريخ سياسياً مدنياً ديموقراطياً لهم، منذ أكثر من خمسة عشر قرناً. والحال الآن، أن لا لسان عربياً ينطق بشجاعة وجرأة وصراحة تامة بالحق والواقعية والرشاد والموضوعية، وينير المستقبل للعرب الذين هم في غالبيتهم من الدهماء والغوغاء نتيجة لوجود سبعين مليون أمي أبجدي، وأكثر من مئتي مليون أمي ثقافي ( أقل من نصف في المئة من سكان العالم يقرأون الكتب، وواحد في المئة فقط يقرأون الصحف، والكتاب الجيد يوزع ألف نسخة فقط)، ودخل سنوي هو في المتوسط بين الدول غير المنتجة للنفط (سكانها 80 % من سكان العالم العربي) ألف دولار في العام؛ أي ثلاثة دولارات فقط في اليوم، لا تكفي لشراء ثلاث سندويتشات فلافل يومياً. - 4 - والسؤال الآن:لماذا يصمت العرب تجاه ما يجري للفلسطينيين الذي أصبحوا خبراً من أخبار التاريخ الماضي باقتتالهم هذا؟ وما هي وجاهة أسباب الصمت العربي الرسمي والشعبي تجاه ما يجري بين الفلسطينيين من قتل وحريق وفرقة؟ لهذا الصمت أسبابه الكثيرة منها:1 - إن العرب، أنظمة وشعوباً، قد انهكوا بعدما انهمكوا في القضية الفلسطينية أكثر من نصف قرن من الزمان. وقد تعبوا من هذه القضية التي عادت عليهم بالضرر الكبير أكثر مما عادت بالنفع. فامتلأت الدول العربية المجاورة لفلسطين باللاجئين الفلسطينيين الذين فرشوا الأرض بالمخيمات، وزادوا من نسبة البطالة والفقر في هذه البلدان. وهم الذين تزايدوا سكانياً منذ العام 1948 إلى الآن أربعة أضاف. وهم يفاخرون بهذا الانفجار السكاني الذي يعتقد بعض المحللين السياسيين المثاليين بأنه السلاح الفلسطيني الوحيد في وجه إسرائيل، ولا يعلمون بأن تايوان كانت في وقت من الأوقات أقوى من الصين الأم. كما إن هونغ كونغ كانت أغنى وأرقى من الصين الأم. وإن قنبلة الانفجار السكاني الآن هي أخطر قنبلة يمكن أن تواجه الشعوب النامية والراقية. والمثال الأقرب والأوضح الآن أمامنا هو مصر وما فعلته قنبلة الانفجار السكاني التي حطمت كل مشاريع التنمية وأحالت مصر إلى بلد فقير وجائع. وإن قنبلة الانفجار السكاني التي يفجرها كل يوم الفلسطينيون تزيد القضية الفلسطينية تعقيداً، حيث يزداد المطالبون بحق العودة إلى فلسطين ما قبل 1948 أضعافاً مضاعفة، مما يُعقّد حلَّ القضية، وبحيث أصبح من المستحيل استيعاب عشرة في المئة منهم، فما بالك بالجميع.2 - كان لدى العرب مصالح سياسية واقتصادية واستثمارية كثيرة مع الغرب ومع أميركا، ولقد تعطلت هذه المصالح وضاعت فرص سياسية واقتصادية واستثمارية كثيرة على دول العالم العربي نتيجة لموقفها المتماهي مع موقف الدهماء والغوغاء في الشارع والسلطة الفلسطينية إما نتيجة للخوف، وإما لعدم القدرة على استطلاع المستقبل.3 - إن الخوف والرعب الذي أدخلته الغوغاء والدهماء والفصائل الدينية والقومية الفلسطينية المسلحة في قلب الحكام العرب والسياسيين العرب وقادة الرأي السياسي العربي، فيما لو تم تأييد حل تفاوضي سياسي سلمي مرحلي وليس شاملاً للقضية الفلسطينية، قد جعل كل هؤلاء يحجمون عن التدخل في القضية الفلسطينية تدخلاً سياسياً واقعياً شجاعاً، لا يُرضي الغوغاء والدهماء والفصائل الدينية والقومية الفلسطينية المسلحة. ولعل مقتل الملك عبد الله الأول ملك الأردن على باب المسجد الأقصى في 1951 بيد الفلسطيني مصطفى عشو، لميل الملك الفقيد إلى حل القضية الفلسطينية حلاً سلمياً مرحلياً، وكذلك مقتل أنور السادات في 1981 لتوقيعه معاهدة «كامب ديفيد» السلمية مع إسرائيل، والاغتيالات الأخرى التي تكررت في الأردن ولبنان لرموز السياسة العربية والفلسطينية المطالبة بالحل السلمي المرحلي، والاتهام بالخيانة لكل من ينادي بذلك (بورقيبة مثالاً لا حصراً) قد دفع بالعرب إلى الابتعاد عن التورط بالشأن الفلسطيني. ولعل محاولة الملك عبد الله بن عبد العزيز في «لقاء مكة» الأخير التوفيق بين الأطراف الفلسطينية، والارتكان إلى الحكمة والواقعية السياسية، وفشل هذه المحاولة أكبر برهان على أن الفلسطينيين أنفسهم لا يريدون لقضيتهم أن تُحلّ، ولا لدولتهم أن تقوم.4 - لقد توصلت الدول العربية والنخب العربية السياسية العاقلة إلى قناعة أن الموقف العربي مأكول مذموم كطعام البخيل. فمتى كان الموقف العربي على مزاج و(كيف) السلطة الفلسطينية، ويحقق لها أهدافها بالبقاء والنهب والفساد وتضخم الأرصدة في البنوك، ولا يمسّ الثوابت فهو مقبول. ومتى كان على العكس، اعتُبر ذلك تدخلاً في الشأن الفلسطيني. كذلك هو موقف السلطة الفلسطينية من أميركا والغرب. فقد طالب عرفات في 2004 أميركا أن ترسل جيشها إلى غزة لحماية الشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه كان يشجب تدخل أميركا لحماية الشعب العراقي من ديكتاتورية صدام، ويطالب بانسحاب أميركا من العراق فوراً، كشفاً لعورة النظام السياسي العراقي الجديد الذي كان ما زال في «اللفّة»، وما زال يحبو. ولم تعد أميركا على هذا النحو هي فقط التي تكيل مكياليين كما نردد جميعاً، فقد أصبحت السلطة الفلسطينية هي الأخرى، تكيل بأكثر من مكيالين.5 - أصبح لدى العرب قناعة، بأن القضية الفلسطينية لن يحلها محمود درويش بأشعاره القومية، أو سميح القاسم بقصائده الوطنية، أو إبراهيم نصر الله برواياته المتتابعة، أو ياسر عرفات بإشارة النصر الهزيل المُفتقد التي كان يرفعها من حين لآخر. وأن القضية الفلسطينية أصبحت بحاجة إلى قيادات تاريخية وشجاعة تفتدي السلام بالنفس كما افتدى اسحق رابين وأنور السادات السلام بنفسيهما. وأن لا زعيم عربياً ولا نظام عربياً لديه الاستعداد الآن أن يفتدي السلام الفلسطيني – الإسرائيلي بنفسه. فقد كادت أوطان أن تضيع (الأردن ولبنان مثالاً) نتيجة لذلك.6 - أصبح لدى معظم العرب - حكاماً ونخباً- قناعة تامة ومن خلال تجاربهم البعيدة والقريبة مع القيادات الفلسطينية المختلفة، بأن الشوك الفلسطيني في الكف الفلسطيني لا يقتلعه غير الشعب الفلسطيني ذاته وبالوسيلة التي يراها. وأن على الشعب الفلسطيني أن يتألم أكثر، ويذوق العذاب والمرارة بشكل أعمق من العذاب والمرارة اللذين ذاقهما حتى الآن، لكي يعرف ما معنى السلام بأي ثمن، وليس بثمن معين. فالشعوب لم تعرف معنى السلام الحقيقي بأي ثمن، إلا عندما احترقت احتراقاً شاملاً، واليابان، وألمانيا، وكوريا أمثلة واضحة. كاتب أردني