صورٌ كثيرة مرت في ذهني وقلبي عندما قرأت الخبر المفزع المفجع الذي اخترق صدري من الجنب إلى الجنب، ومن بينها صورتك وأنت تجلس على حافة «فرندة» كوخي الصغير في مزرعتي، التي تجاور مزرعتك كما يجاور قلبك قلبي وذكرياتك ذكرياتي، وتتحدث عن المستقبل وهموم هذه الأمة التي أخذت من عمرك الكثير ولم تعطك سوى السمعة الحسنة.آهٍ يا أحمد... لاأسوأ من ذلك الصباح، فقد كنت قد غادرت المستشفى في إجازة مؤقتة بعد معركة استطالت نحو شهر مع الإبر والأشعة والأدوية والتقارير التي يأخذني بعضها إلى طبقات السماء، في حين أن بعضها الآخر يهبط بي إلى أسفل سافلين... في ذلك الصباح نهضت باكراً وذهبت إلى «كشك» بيع الصحف في «سلون سكوير» في لندن... وكالعادة فقد تناولت «الشرق الأوسط» وكان ذلك النبأ المفجع الذي جمّد الدماء في عروقي وأخذني إلى تلك الأحلام الوردية التي عشناها في سنوات الأحلام الوردية قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً.
وأنا في مستشفى «كينكز كولج» حلت ذكرى استقلال الكويت الحبيبة فتذكرتك ذلك المساء كما بقيت أتذكر في كل يوم منذ أن افترقنا بعد آخر لقاء في مزرعتك التي تجاور مزرعتي، في تلك الجبال الشاهقة التي تطل على مدينة جرش التاريخية من الجنوب، كما يجاور قلبك الآن قلبي وأنت عند ربك ملاكاً طاهراً وأنا في هذه الدنيا الفانية أنتظر يوماً سيأتي لا محالة... وهذه هي سنّة الله وهذا هو قدره.
رأيتك يا أحمد أيها الحبيب... أيها الفارس الذي ترجّل والمعركة لاتزال محتدمة وحامية الوطيس... وأنا أغطُّ في نوم مصطنع في إحدى غرف «كينكز كوليج» في لندن بثيابك البيضاء الناصعة التي تشبه ببياضها ثلج جبل «حرمون» المطل على فلسطين وعلى سهول حوران، والذي يستطيع المحب أن يرى من فوقه في ما يسمى التعلق الوجداني الكويت في الأفق البعيد.
لقد كنت كعادتك متحمساً ومندفعاً وكنت تتحدث عن أشياء كثيرة لكنني لم ألتقط كلمة واحدة... وفي الصباح وعندما بدأت معركة «الإبر» والأشعة وعربات الفحوص اليومية التي تشبه دبابات تشتبك مع أخرى حاولت الاتصال مرة وثانية وعاشرة... وألفاً لكنني لم أستطع وبقيت الحسرة تمزق أحشائي لأنني لن أسمع صوتك بعد خبر يوم الخميس الماضي ولأنك أخذت معك مرحلة عشناها معاً بحلوها ومرها... والحقيقة أن مرها كان أكثر من حلوها بكثير.
صورٌ كثيرة مرت في ذهني وقلبي عندما قرأت الخبر المفزع المفجع الذي اخترق صدري من الجنب إلى الجنب ومن بينها صورتك وأنت تجلس على حافة «فرندة» كوخي الصغير في مزرعتي، التي تجاور مزرعتك كما يجاور قلبك قلبي وذكرياتك ذكرياتي، وتتحدث عن المستقبل وعن هموم هذه الأمة التي أخذت من عمرك الكثير ولم تعطك سوى السمعة الحسنة التي تطوف الوطن العربي الآن... من الشام لبغدان ومن يمن إلى مصر فتطوان.
لم يمهلك القدر يا أحمد... يا أبا قتيبة حتى تتحقق بعض أحلامك العربية لكنك يا أحمد قبل رحيلك كنت قد عشت فرحة تحرير الكويت التي افترسها جاهل أحمق ومجنون باسم العروبة والرسالة الخالدة... والآن وقد اختطفتك يد المنون من بيننا فإنه لابد من قول الحقيقة التي عرفها أهلك ويعرفها الكويتيون كلهم، وهي أنك كنت فارساً في الدفاع عن الوطن الذي أعطيته كل حياتك وبقيت تعطيه كل حياتك حتى الرمق الأخير.
اعذرني أيها الأخ والرفيق والحبيب لأنني لم آت لوداعك ولأطبع قبلة حارة على جبينك قبل أن ترحل... فأنا مازلت أخوض معركة الأنابيب التي تشبه الأفاعي السامة ومعركة الإبر والأشعة... اعذرني يا أحمد... اعذريني أيتها الأخت الطيبة يا أم قتيبة رفيقة الرجل الذي ترك لك وللأحباء قتيبة وأشقائه سمعة عطرة هي أكبر وأهم ما يمكن أن يتركه أبٌ لعائلته وأولاده... ستبقين يا أم قتيبة أختاً عزيزة وأعاهدك أن أزرع زيتونة في المكان الذي جلس فيه أحمد عندما زار مزرعته ومزرعتي آخر مرة وسأبقى أرويها بدموع عيني حزناً على صديق لن يجود الزمان بمثله حتى ولو عشت ألف عام... وداعاً يا أحمد إلى جنان النعيم والصبر والسلوان للمحبين الذين رحلت وتركتهم خلفك.
* كاتب وسياسي أردني