وطن الانتحار!!

نشر في 02-03-2008 | 00:00
آخر تحديث 02-03-2008 | 00:00
 أ.د. غانم النجار

قبل أكثر من عشرين عاماً وعندما كتبت أن الوطن في طريقه إلى الانتحار وصف بعضهم ما ذهبت إليه بالتشاؤم، مع أنها لم تكن أمنيات، بل تشخيص وتصور وتوقع، وللأسف حدث ما كنت أتوقع، فغابت الرؤية، وضاعت البصيرة، وجمد الدستور وصودرت الحريات وحدث الغزو.

قبل 22 عاماً، كتبت سلسلة مقالات بعنوان «تأملات في وطن ينتحر». كانت أجواء الشحن الطائفي قد بلغت مداها، وكانت استخبارات النظام البعثي في العراق تصول في البلاد وتجول، وكان الكثير من الكويتيين يفرحون ويهللون، وأصبح من يقول إن الحرب العراقية الإيرانية يجب وقفها يتم تصنيفه في الخندق المعادي للوطن. وشيئاً فشيئاً وتحت مبررات حماية الوطن من «الطابور الخامس» تحولت الكويت إلى دولة بوليسية، ولم يتأخر بنا الوقت فانقلبت الحكومة على الدستور وحلت مجلس الأمة وفرضت الرقابة على الصحافة، وتم تفعيل قانون أمن الدولة، ووضعت الناس في السجون من دون تهم، وتم التعسف في استخدام السلطة. كانت تلك الأجواء الموبوءة المريضة التي عشناها في حقبة الثمانينيات. استسهل فيها الكثيرون الدعوة إلى القمع وتجاوز القانون، ودبجت في ذلك القصائد والمهرجانات، وجرى فيها التخوين وإسقاط الجنسيات. كنت أرى حينها مجتمعاً قد انفلت عن عقاله، كنت أراه مجتمعاً قد قرر الانتحار من خلال تعظيمه الفئوية، والتعصب، وعدم احترام القانون، وإنكار المبادئ الدستورية في العدالة والمساواة وتقنين الفساد والتمييز.

وهكذا جاء الانقلاب على الدستور عام 1986 مؤشراً في هذا الاتجاه، كان واضحاً أن هناك من قرر أن يقود المجتمع إلى الهاوية، حتى إن كان يظن أنه كان يحسن صنعاً، وعندما حدث الغزو عام 1990، ومع أن الذي ارتكبه صدام حسين، إلا أن قراءة متعمقة لتقرير لجنة تقصي الحقائق عن كارثة الغزو يكتشف غياب الرؤية وضياع البوصلة، وكأننا قد تم اقتيادنا كالخراف إلى الانتحار، وتم تسليمنا لقمة سائغة لأحد أعتى مجرمي التاريخ.

كنت أظن، ربما، أن غزو 1990 جاء بمنزلة الصفعة التي تلقيناها، ربما لنستعيد وعينا ونشفى ويشفى الوطن من مرض الرغبة في الانتحار. والحق يقال، وكنت من أولئك الذين عاشوا فترة الاحتلال كاملة على الأرض، بأن الشواهد كانت كثيرة على صحوة من غفلة كانت مستحكمة، وأن المجتمع قد تماسك واستطعنا من خلال صمودنا في أثناء الغزو أن نرمم الكثير مما أفسده الدهر وآفات الزمن.

وها هو الغزو وقد زال وتلاشى وأعدم من كان وراءه، ولكننا لم نتعلم الكثير من ذلك الدرس، وها نحن نعود مجدداً، وإن بدرجة أقل، إلى أجواء مريضة تشبه تلك الأجواء، يخوّن فيها الناس بعضهم، ويتراشقون بأسلحة الولاء، ويسقط هذا جنسية ذلك، ويستمرئ بعضهم القول بإسقاط عضوية نائب أو منعه من حضور الجلسة. وفي تلك الأجواء يتم التسويغ للتعسف والتجاوز والافتئات على القانون.

إن ما جرى ويجري من توتر ليس إلا نتيجة لتراكمات تسبب بها غياب الدولة والدور الحكومي أولاً، كممثلة للإرادة العامة، حافظة للقانون، حامية للعدالة والمساواة، لا تميز ولا تحيز. هذه هي الدولة التي نريدها حاضرة، وهذه هي الدولة التي نتطلع إلى فرض هيبتها التي غابت، والتي تسبب غيابها مرة أخرى بمحاولات لملء فراغ الغياب ذاك، فالتردي الذي نعانيه ليس في المشكلة أو في الأزمات، كما أنه ليس بسبب قلة في الزاد ولكنه بسبب سوء في التدبير. لقد آن الأوان لانتشال البلاد من حالة الضعف العام، والترهل المخزّن، ربما من خلال مؤتمر وطني برعاية صاحب السمو أمير البلاد طالما تبقى في الجرة شيء من ماء.

قبل أكثر من عشرين عاما وعندما كتبت أن الوطن في طريقه إلى الانتحار وصف بعضهم ما ذهبت إليه بالتشاؤم، مع أنها لم تكن أمنيات، بل تشخيص وتصور وتوقع، وللأسف حدث ما كنت أتوقع، فغابت الرؤية، وضاعت البصيرة، وجُمّد الدستور وصودرت الحريات وحدث الغزو.

وأسأل الله ألا يدفع بنا أي كان، بهذا الوطن الصغير إلى طريق انتحار جديد، ربما أشد وطأة وأكثر قسوة، فالزمن غير الزمن، والوقت غير الوقت، والمنطقة حبلى بالتدمير، ولسنا إلا بلداً صغيراً، نسأل الله أن يحميه من كل مكروه.

back to top