العيدية

نشر في 11-10-2007 | 00:00
آخر تحديث 11-10-2007 | 00:00
No Image Caption
العيدية لفظ اصطلاحي أطلقه الناس على ما كانت توزعه الدولة أو الأوقاف من نقود في موسم عيد الفطر وأيضاً في عيد الأضحى كتوسعة على أرباب الوظائف.
كانت هذه «العيدية «تعرف» بالرسوم» في أضابير الدواوين ويطلق عليها التوسعة في وثائق الوقف.

والعيدية مدينة بظهورها كحق مكتسب لموظفي الدولة لسياسة «ذهب المعز وسيفه» الشهيرة إذ يؤثر عن الخليفة الفاطمي المعز لدين الله عند دخوله مصر بعد افتتاحها على يد جوهر الصقلي أنه وجد الناس في جدل ونقاش بين مؤيد ومشكك في صحة نسبته للبيت النبوي.

فوقف وسط الناس وقد لوح بسيفه قائلاً هذا نسبي ثم أعقب ذلك بإخراج بعض الدنانير الذهبية ويصيح «وهذا حسبي».

وقد أثبتت الأحداث أن المعز لدين الله أحسن لحد كبير استخدام حسبه ونسبه في توطيد دعائم خلافته الإسماعيلية المذهب فجرد الجيوش لتهاجم مناهضيه من دون هوادة وغمر رعاياه في كل مناسبة بالأعطيات ومظاهر الترف والبهجة.

ومما ساعد المعز على تنفيذ سياسته الذهبية سيطرة الخلافة الفاطمية على طرق تجارة الذهب مع غربي أفريقيا تلك التجارة التي تعرف تاريخياً بالتجارة الصامتة، ذلك أن التجار المسلمين كانوا يصلون إلى حافة الصحراء عند غانا القديمة ويضعون في مكان معلوم بضائعهم من أقمشة وخرز وزجاج ملون وملح على أن يعودوا إلى ذات المكان في اليوم التالي، حيث يجدون كومة من تبر الذهب قام السكان المحليون بوضعها أمام كل صنف من السلع التي يرغبون في شرائها، فإن أعجبهم الثمن أخذوا تبر الذهب ورحلوا أو عادوا من دون أن يحركوا شيئاً من سلع المبادلة فيفهم السكان أن التجار يرغبون في زيادة الثمن حتى تنتهي عملية التفاوض وتتم تلك التجارة الفريدة من دون أن يتبادل أطرافها أي حديث وربما مندون أن يرى بعضهم بعضاً.

وتذكر المصادر التاريخية أن المعز لدين الله حمل في رحلته من المهدية في تونس إلى القاهرة ثروة ذهبية هائلة سبكها على هيئة أحجار الطواحين الضخمة ليتسنى وضعها على رواحل الجمال. وإلى جانب الذهب الأفريقي كانت المناجم المصرية في وادي العلاقي ووادي الطميلات تزود الفاطميين بمعدن الذهب وذلك فضلاً عن حلي الذهب التي كان يستولى عليها من مقابر الفراعنة بواسطة حفنة من المغامرين تشرف الدولة على أعمالهم وهم يعرفون بالمطالبين أو أهل المطالب.

وقد حرص الفاطميون على توزيع العيدية مع كسوة العيد خارجاً عما كان يوزع على الفقهاء والمقرئين بمناسبة ختم القرآن ليلة عيد الفطر من الدراهم الفضية.

وعندما كانت الرعية تذهب بجموعها إلى قصر الخليفة يوم العيد للتهنئة كان الخليفة الفاطمي ينثر عليهم الدراهم والدنانير الذهبية من منظرته بأعلى أحد أبواب قصر الخلافة.

والحقيقة أن الاهتمام الأكبر بالعيدية أو ما يعرف بالرسوم كان يقع في عيد الأضحى لأن عيد الفطر كان يعرف لديهم بعيد الحلل والكسوات، وقد رصدت لتلك الرسوم في عام 515 هـ ثلاثة آلاف وثلاثمئة وسبعة دنانير ذهبية، وفضلاً عن ذلك كان الفاطميون يضربون دنانير خصوصا في غرة العام الهجري تعرف بدنانير المغرة، ويضربون أيضاً قطعاً ذهبية صغيرة تعرف بالخراريب (الخروبة تساوي 0.192 من الغرام) في خميس العهد وهو من أعياد القبط في مصر والتي كان يحتفل بها المصريون جميعاً ويسمونه خميس العدس، وتوزع هذه الخراريب على كافة موظفي الدولة والأمراء أي أن العيدية كانت لأعياد المسلمين والنصارى على حد سواء.

ونظراً الى كثرة المواسم والأعياد التي كانت الدولة الفاطمية تحتفل بها ولرغبتها في إرضاء أعداد أكبر من رعاياها فقد لجأت إلى سك عملات خاصة برسم التفرقة في الأعياد وجميعها ذات طابع تذكاري رمزي أي أنها كانت تضرب بأوزان قليلة كأرباع الدنانير والدراهم (الرباعيات) والخراريب، وهى بذلك لا تكلف خزينة الدولة الشيء الكثير مع عمق إشارتها لتقدير الخليفة لرعاياه ورغبته في إدخال السرور عليهم في المناسبات والأعياد.

وبزوال دولة الفاطميين التي حكمت أغلب أجزاء الشرق والغرب الإسلاميين توقفت الدولة الإسلامية عن دفع العيدية أو الرسوم لأرباب الوظائف المدنية واكتفت بصرفها للجنود في حقبة احتدام المواجهة مع قوات الغزو الصليبية ثم المغولية، وكان التركيز كبيراً على صرف العيدية، كما كان زمن الفواطم في عيد الأضحى، وكثيرا ما تعرض بعض سلاطين دولة المماليك لاعتداءات هؤلاء الأرقاء الذين ارتقوا إلى مرتبة الأسياد بسبب قلة أو تأخر نفقة العيد وربما أدى تذمر المماليك إلى عزل السلطان عند عجزه عن إرضاء رغبات مماليكه.

وعندما تحولت العيدية إلى امتياز للعسكريين كانت تضرب أوزان أكبر من أوزان النقود المتداولة إذ كانت تعتبر في نظر هؤلاء ،من أثرياء الحرب، طريقة للاكتناز وتكديس المعادن الثمينة.

ولم يأت العصر العثماني بجديد يختلف عما آل إليه الحال في ظل سيطرة العسكريين من الأكراد والأتراك الشركس، فكانت العيدية تصرف فقط لكبار رجال الدولة في الأستانة وللباشاوات في الولايات المختلفة ولقادة الفرق العسكرية وذلك على سبيل التشريف، ويكفي للواحد من هؤلاء أن ينال قطعة ذهبية واحدة ثقيلة الوزن، واشتهر من بين أنواع نقود العيدية «فندقلي العيدية المخور» أو المضاعف وهى عملات عرفت بهذا الاسم لاقتراب عيارها المرتفع من عيار دوكات البندقية أو الذهب البندقي وكانت تضرب بأوزان خاصة طبقاً لرتبة الذين سيتلقون العيدية وقد يصل بعضها إلى عشرة دنانير وزناً.

ومما يستحق التنويه أن «العيدية» أو بالأدق عملات العيدية كانت تضرب بالأساس من الذهب والفضة، وكان المعدنان في نظر المسلمين هما «الشرعية» ولا شيء سواهما، ولذا لم تضرب أي نقود تذكارية من النحاس أو البرونز.

ومن المفيد أن نذكر هنا أن المسلمين تعاملوا بالنقد المعدني في غالب الأحوال ومعظم الأقطار باستثناء فترة قصيرة في خلافة عمر بن الخطاب اتخذ خلالها العملة الجلدية بديلاً عن المعدنية لضرورة اقتضتها الحروب وأيضاً في الولايات الفارسية التي كانت خاضعة لحكم إيلخان المغول كيخاتوخان الذي وافق في عام 693 هـ على إصدار عملة ورقية عرفت «بالجاو» المختوم بدمغة الخان المغولي، وكانت تلك مشورة لبعض الوزراء لتلافي عجز الخزانة العامة عن سداد المصروفات الضرورية إلا أن العمل بهذه العمل الورقية كان يستمر طويلاً وذهبت تهديدات كيخاتو بإعدام من يرفضها سدى نتيجة لضغوط الفقهاء والعامة التي انتهت بوقف العملة ثم مقتل الخان بعد ذلك.

ومهما يكن من أمر تحول ديار الإسلام إلى التعامل بأنواع شتى من العملات الورقية، فإن «العيدية» صارت تقليداً انتقل الالتزام به من الدولة إلى الأفراد، وبالتحديد إلى الكبار في كل أسرة، وصار الآباء والأعمام والأخوال يدفعون عن طيب خاطر لأولادهم وأحفادهم جُعلاً مالياً، قل أو كثر، على سبيل العيدية وذلك لإدخال البهجة على نفوسهم بمناسبة الأعياد ولا فرق في ذلك بين عيد الفطر وبين عيد الأضحى.

وليس هناك شك في أن الآباء سيصبون الآن اللعنات على المعز وذهبه الذي جر عليهم تبعات وأعباء هذه العيدية.

(أ. ص)

back to top