Ad

لا يضمر حزب «العدالة والتنمية» عداءً للغرب، ولا يسعى إلى تكفيره، كما تفعل بقية الأحزاب السياسية الدينية العربية، بل إن «حزب العدالة والتنمية»، ينادي بضرورة تطبيق الإصلاحات الهادفة إلى تلبية معايير الاتحاد الأوروبي، وتأييد مسيرة عضوية «الاتحاد الأوروبي» التي من شأنها -فيما لو تحققت- التقليل من سيطرة العسكرتاريا التركية على الحياة السياسية.

لا أحد ينكر أن الشأن التركي عامة هو شغل شاغل للعرب. فلا غرو إذاً أن ينشغل العرب بالنجاح الكبير الذي حققه «حزب العدالة والتنمية» أخيراً، وكما قال عمر قدور، فإنا سنرى نسبة ساحقة من التعاطف مع «حزب العدالة والتنمية»، رغم اختلاف المنابر الإعلامية، واختلاف مشاربها، وغاياتها. وبدا «حزب العدالة والتنمية» في منظور الإسلامويين عامة، وكأنه ينتقم للعرب من أتاتوركية بغيضة لهم، هذا من الناحية القومية، أما من الناحية الدينية فالأمر أكثر وضوحاً ومنطقية، إذ يتوسل الإسلامويون في العالم العربي عودة تركيا إلى هويتها الإسلامية.

ظاهرة سياسية جديرة بالدرس العربي

نجاح حزب إسلامي/علماني في بلد إسلامي علماني حداثي، في دورتين انتخابيتين نزيهتين كحزب «العدالة والتنمية» التركي، وكذلك نجاح واحد من قادته كعبدالله غول في انتخابات رئاسة الجمهورية، واعتبار زوجته المحجبة «خير النساء» سيدة تركيا الأولى، يعتبر ظاهرة سياسية وثقافية كبيرة ليس للأتراك فحسب، ولكن لنا نحن العرب، ومدعاة لدراسة هذه الحالة الإسلامية التركية ومحاولة من قبلنا، والاستفادة منها، للخروج من هذا التخبط الديني المذهبي والطائفي، الذي نحن فيه الآن، الذي نحترق بناره، ونتعذب بآثاره.

لكن هذا كله، يتم بمراقبة الجيش وكبار ضباطه، كحرّاس على الواقعية العلمانية في تركيا، حيث ينصُّ ميثاق الجيش التركي على أنه حامي حمى دولة تركيا العلمانية. ولذا قام الجيش (الوصي على تركة أتاتورك) على مدى الأربعين عاماً الماضية بثلاثة انقلابات أطاحت بحكومات مدنية، يُشكُّ في علمانيتها. والمؤسسة العسكرية تؤكد دائماً استمرار تمترسها خلف العلمانية في مواجهة أحزاب المعارضة، لاسيما الأحزاب الدينية، وإن كانت تلك الأحزاب قد اضطرت لتغيير برامجها لأغراض يقال إنها تكتيكية.

الإسلاميون الجُدد

لنتأمل تاريخ هذا الحزب... «حزب العدالة والتنمية»، ولماذا سُمّي بهذا الاسم ولم يطلق عليه حزب «العدالة الإسلامية» مثلاً، أو حزب «التنمية الإسلامية» مثلاً، أو لم تُلحق كلمة «الإسلامية» في آخر اسمه الحالي كأن يقال مثلاً: «حزب العدالة والتنمية الإسلامية»... إلخ؟

دون أي إسراف في التاريخ، نقول إن «حزب العدالة والتنمية» تمَّ تشكيله من قبل النواب المنشقين من «حزب الفضيلة الإسلامي» الذي تم حلّه بقرار صدر من محكمة الدستور التركية في 2001، وكانوا يمثلون جناح المجددين في «حزب الفضيلة». وانتخب رجب طيب آردوغان عمدة إسطنبول السابق، وأحد البارزين في الحركة السياسية الإسلامية في تركيا أول زعيم للحزب. ويعتبر «حزب العدالة والتنمية» الحزب 193 ضمن الأحزاب السياسية التي دخلت الحياة السياسية التركية. وقد استطاع هذا الحزب بذكاء معرفي وسياسي شديد، أن يتجنب أخطاء الأحزاب الدينية التركية السابقة، وكذلك أخطاء و«مطبات» الأحزاب الدينية السياسية العربية. وأن يتفادى سخط المؤسسة العسكرية الحامية للعلمانية رغم مخاوفها منه، ويُرضي الشارع الديني التركي بقطعة قماش، هي حجاب زوجة الرئيس عبدالله غول.

الديموقراطية هي الحل

يُشكِّل هذا «حزب العدالة والتنمية» الاعتدال الإسلامي السياسي الواقعي التركي المقبول من الغرب والمجتمع الدولي. والاعتدال الذي نعنيه هنا، أن هذا الحزب رغم أنه يستخدم في أدبياته السياسية مفردات القاموس السياسي الإسلامي، ولكنه لا يطبقها على الواقع التركي المعاش. والغاية من استخدام هذه المفردات تشغيل الماكينة الانتخابية بعناية لجذب أكبر عدد من المناصرين والمؤيدين للحزب في الانتخابات.

إلا أن هذا الحزب لم يقع في «المطبِّ» الذي وقع فيه «الإخوان المسلمون»، وحركة «حماس»، وحزب «التحرير الإسلامي»، وحزب «النهضة» التونسي، وغيرها من الأحزاب السياسية الدينية، نتيجة لرفعهم شعارات سياسية دينية رومانسية، لا دلالات واقعية لها، ولا تفيد غير تنويم الشعوب في العسل، وتخديرهم، وكسب معارك انتخابية زائفة، ومنها:

1 - عدم رفع شعار رومانسي فارغ من المضمون السياسي كالشعار الذي اخترعه الإخوان المسلمون: «الإسلام هو الحل»، وكما تفعل معظم الأحزاب السياسية الدينية العربية السابقة، إضافة إلى «حزب العدالة والتنمية» العراقي و«حزب العدالة والتنمية» المغربي اللذين يتمسَّحان بـ«حزب العدالة والتنمية» ويقلدانه تقليداً قردوياً. ولكن «حزب العدالة والتنمية» الأصلي التركي، تبنى بدلاً عن ذلك شعاراً واقعياً حداثياً هو: «الديموقراطية هي الحل».

2 - لا يرفع «حزب العدالة والتنمية» أي شعار ديني تقليدي غامض، ومُبهم، ومستورد من قرون طويلة فاتت، وانقضت. فهو أقرب إلى العلمانية الأتاتوركية منه إلى فكر الإخوان المسلمين، خاصة فكر سيد قطب التدميري العدمي. ورغم هذا، فإن كبار ضباط الجيش التركي رفضوا انتخاب عبدالله غول رئيساً جديداً للجمهورية التركية، كما رفضوا مصافحته في حفل التنصيب، نتيجة لاشتمامهم رائحة كريهة، تزكم أنف الزعيم كمال أتاتورك في قبره. كما أن «حزب الشعب الجمهوري» العلماني الصرف، غير راضٍ عن علمانية «حزب العدالة والتنمية» الثعالبية هذه، كما قال محمد آلتان الأب الروحي لـ«حزب الشعب الجمهوري».

3 - يرفع «حزب العدالة والتنمية» شعار الحريات الدينية والفكرية والثقافية، والانفتاح على العالم. ويبني سياسته على التسامح والحوار. ولا يُقسِّم العالم إلى «دار حرب» و«دار سلام». ولا يسعى إلى الولاء من المسلمين فقط، والبراء من دون المسلمين. ولا يقف فقهاؤه على منابر المساجد، يدعون بالخسران والكفران على من هم من دون المسلمين، كما يفعل مسلمو العرب، وفقاؤهم، وزعماء الأحزاب الدينية السياسية.

4 - لا يضمر هذا الحزب عداءً للغرب، ولا يسعى إلى تكفيره، كما تفعل بقية الأحزاب السياسية الدينية العربية. بل إن «حزب العدالة والتنمية»، ينادي بضرورة تطبيق الإصلاحات الهادفة إلى تلبية معايير الاتحاد الأوروبي، وتأييد إقرار الاتحاد الجمركي، ومسيرة عضوية «الاتحاد الأوروبي» التي من شأنها – فيما لو تحققت - التقليل من سيطرة العسكرتاريا التركية على الحياة السياسية. وكل هذا من أجل تحقيق حلم تركيا بالانضمام إلى «الاتحاد الأوروبي» بالوسائل كافة، ملبياً شروط «الاتحاد الأوروبي» التي تخالف في بعض جوانبها الشرع الإسلامي التقليدي، وتُغضب معظم الإسلامويين العرب، وهنا تكمن تلافيف العلمانية الحقيقية، في نسيج «حزب العدالة والتنمية» السياسي. كما تكمن حقيقة الإسلام السياسي التركي، الذي نحن العرب في أمس الحاجة إلى فهمه وهضمه وتطبيقه، بدلاً من هذا التيه والضياع، الذي نحن فيه الآن.

وللحديث صلة.

* كاتب اردني