كيف نفهم مؤتمر أنابوليس 2

نشر في 27-11-2007
آخر تحديث 27-11-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

ترى إسرائيل أن «الانتصار» الذي حققته ضد الانتفاضة والشعب الفلسطيني بعد أكثر من سبع سنوات من المواجهات العنيفة والمفتوحة، يعد جذرياً واستراتيجياً، وليس انتصاراً تكتيكياً أو موقتاً، ولهذا فهي تريد أن تفرض صيغة سياسية تمثل بذاتها انقلاباً استراتيجياً في دبلوماسية التسوية، ومن هنا نستطيع أن نفهم قيمة مؤتمر أنابوليس في الوعي السياسي والإيديولوجي الإسرائيلي.

* لماذا يُعقد مؤتمر أنابوليس في هذا التوقيت بالذات؟

ظلت القوى الديموقراطية والتقدمية في الولايات المتحدة تنتقد إدارة بوش لإهمال الصراع العربي - الإسرائيلي، والتركيز المطلق على ما تسميه بالحرب ضد الإرهاب منذ تنصيبها. وظلت هذه القوى تطالب إدارة بوش بتوجيه بعض الاهتمام إلى القضية الفلسطينية من دون طائل. بل وأحبطت إدارة بوش أقرب حلفائها الأوربيين - خصوصاً طوني بلير - الذين قدموا المطالب نفسها.

لماذا عاندت هذه الإدارة العنيفة كل العالم وجانباً كبيراً من الرأي العام الأميركي، بما فيه قطاع مهم للغاية من اليهود المستنيرين، ولم تبذل أي جهد لتسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي أو مجرد تهدئته طوال هذه الفترة، ثم تعقد مؤتمر أنابوليس فجأة في هذا التوقيت؟

*توقيت ميّت؟

ثمة إجابتان مختلفتان كثيراً.

بعضهم يقول ببساطة إن الهدف من مؤتمر أنابوليس ليس التوصل إلى حل سلمي للصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، بل قد لا يكون لهذا الصراع علاقة بالمؤتمر إلا كذريعة، وهدف المؤتمر في هذه الرؤية هو التمويه على نية الادارة الأميركية تصعيد الصراع مع إيران وصولاً إلى احتمال ضربها عسكرياً. والمؤتمر هو طريقة لكسب دعم وتأييد الحكومات العربية الحليفة في مواجهة إيران، أو في الحد الأدنى تحييد الموقف العربي من عملية ضرب إيران أميركياً أو إسرائيليا أو من الطرفين.

الإجابة الأخرى، أن المؤتمر مقصود لوضع نهاية للصراع العربي - الإسرائيلي، وأن التوقيت محسوب بدقة ومطلوب بذاته من حيث هو «توقيت ميّت»، ويعني هذا التعبير أن اسرائيل لن تعاني ضغطاً حقيقياً ولا رقابة جادة من جانب المجتمع الدولي يجبرها على الامتثال للقرارات الدولية، والهدف الإسرائيلي منه هو التفلّت من، أو الانقلاب على، عدد من القرارات الدولية الجوهرية، فيما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين.

وقد يكون التوقيت محسوباً بالتحديد من حيث مستوى الضعف الفلسطيني.

فلا يمكن لأي طرف فلسطيني الادعاء بأن إسرائيل «أُجبرت» على حضور المؤتمر، مثلما قيل عن الانسحاب من غزة. والمؤتمر لا يعقد والمجتمع الفلسطيني في أفضل أحواله ولا في قمة من قمم نضاله، بل على العكس يعقد في أسوأ حال وفي أردأ قاع.

ويعني ذلك أن إسرائيل اختارت في الواقع هذا التوقيت بعناية. فهي تعتقد أنها انتصرت في الصراع مع الفلسطينيين والعرب، وأن التشدد في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية أتى بالنتائج المرجوة إسرائيلياً.

فأولاً، لم تتراجع إسرائيل أبداً عن مواجهتها الوحشية للانتفاضة الفلسطينية، وطبقت معها المبدأ الاستراتيجي الثابت لديها، وهو الانتقام الثقيل برغم كل صور النقد الموجهة من العالم لهذه السياسة.

وعلى عكس كل التوقعات نجحت إسرائيل في نقل عبء النقد إلى الجانب الفلسطيني، وذلك بفضل الجهاز الدعائي الجبار للحركة الصهيونية.

ومنذ بناء الجدار تحولت موازين الردع جذرياً لمصلحتها، فانخفضت عمليات التسلل بالأحزمة الناسفة لإسرائيل إلى الصفر تقريباً، بينما مازالت إسرائيل قادرة عسكرياً وسياسياً على اقتحام المدن والقرى الفلسطينية وقتل واعتقال من تشاء.

ومن ناحية ثالثة، فهي نجحت في الاحتفاظ بوحدة المجتمع الإسرائيلي خلف سياسة متشددة تجاه الفلسطينيين والعرب، بينما انهارت وحدة المجتمع الفلسطيني واقترب من هوة الحرب الأهلية بين «حماس» و«فتح»، ويعاني المجتمع الفلسطيني اليأس بسبب الانقسام والفشل القيادي على المستويات كلها.

ومن ناحية رابعة، انهار الدعم العربي والدولي للفلسطينيين إلى أدنى مستوى له طوال تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي.

ومن الواضح أن إسرائيل استنتجت أن هذا هو التوقيت المناسب لفرض النتائج السياسية لانتصارها! على الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال مؤتمر أنابوليس.

* انقلاب في دبلوماسية التسوية

وإسرائيل تقدر أن «الانتصار» الذي حققته ضد الانتفاضة والشعب الفلسطيني بعد أكثر من سبع سنوات من المواجهات العنيفة والمفتوحة، يعد جذرياً واستراتيجياً، وليس انتصاراً تكتيكياً أو موقتاً. ولهذا فهي تريد أن تفرض صيغة سياسية تمثل بذاتها انقلاباً استراتيجياً في دبلوماسية التسوية.

ومن هنا نستطيع أن نفهم قيمة مؤتمر أنابوليس في الوعي السياسي والإيديولوجي الإسرائيلي، إذ وضعت الحكومة اليمينية الإسرائيلية تركيزها الكامل تقريباً على نيل الاعتراف العربي والفلسطيني بما تسميه «يهودية دولة إسرائيل». ويمكننا أن نعد هذا المفهوم المفتاح الأساسي لفهم طبيعة مؤتمر أنابوليس.

مؤتمر أنابوليس بهذا المعنى هو عملية هجوم دبلوماسي وسياسي إسرائيلي، يستهدف تحقيق نصر إيديولوجي ورمزي كامل على حساب الحركة الوطنية الفلسطينية والموقف القومي العربي، وهذا النصر الإيديولوجي، فيما لو تم انتزاعه من العرب، يسري بأثر رجعي وله انعكاسات خطيرة في المستقبل أيضاً، وقد أشرنا الى أن هذا المطلب يلغي عمليا القرار (194) للجمعية العامة، ويتعلق بحق العودة والتعويض للاجئين، ويمكن أن يوظف لاحقاً لتطبيق سيناريو «الترانسفير» على عرب 1948 أنفسهم.

هذا النصر الإيديولوجي والرمزي الذي يعده اليمين الصهيوني جوهر المعركة، يستأهل ما تراه الحكومة الحالية «تنازلات مؤلمة» وتعني بها؛ أولاً، قبول فكرة «دولة فلسطينية». وثانياً، الانسحاب من أراضي احتُلت عام 1967. وبمعنى ما يتمنى اليمين الإسرائيلي أن يتمكن من توظيف مؤتمر أنابوليس لوضع «حل نهائي» للصراع مع الفلسطينيين، وهو أمر يشكل بذاته صدعاً في الرؤية اليمينية للصهيونية، ففي هذه الرؤية لا يحل أبداً التناقض مع العرب والفلسطينيين، ولا يحل السلام أبداً مع الجيران أو الأغيار.

ويعني ذلك، أن مؤتمر أنابوليس يمكن أن يكون البديل اليميني لمؤتمر كامب ديفيد المجهض عام 2000، وهو ما يعني استهداف أن يخرج بصفقة تمثل لإسرائيل «حلاً نهائياً»، وليس بالضبط كما رأى شارون مؤسس الحكومة الحالية والحزب الرئيسي فيها «كاديما»، حلاً موقتاً طويل المدى!

لكن الحكومة الإسرائيلية الراهنة لا تراهن بالضرورة على هذا الخيار أو الاحتمال لأسباب متعددة. فهي إيديولوجيا أميل إلى نظرية الحرب الدائمة، وهي من الناحية الرمزية تكن عداءً شديداً أيضا لفكرة «الشعب الفلسطيني»، وكانت دائماً تنكر وجوده أصلا، ومن ناحية ثالثة، فليس لديها تصور محدد حول مدى الانسحابات المحتملة بالنسبة لها من الأراضي المحتلة عام 1967، ولا يبدو لي صحيحاً أنها متفقة على نسبة معينة مثل 40 أو 60%، فالخلاف الحقيقي يتعلق بالموقف من القدس الكبرى، بالتعريف الإسرائيلي، التي تمثل بذاتها نحو ربع الضفة، ومن ناحية رابعة، فإن قضية القدس لا تزال معلقة إلى حد ما في فكر هذه الحكومة. فبعضهم يقبل بعودة الأحياء العربية إلى السيادة الفلسطينية، وبعضهم يرفض تماماً إعادة أي جزء من القدس ولو مقابل تنازل فلسطيني عن حق العودة.

* حكومة جديدة

من الواضح أن هذا التصور العام لمؤتمر أنابوليس هو ذاته متهافت وبعيد عن الواقعية. فمهما بلغ الضعف الفلسطيني والعربي، لن يجرؤ أحد على التسليم بما يريده اليمين الإسرائيلي، واليمين الإسرائيلي ذاته غير موحد على ثلة من القضايا الجوهرية بالنسبة إلى أي اتفاق سلام، ويعلم الجميع أن هذه الحكومة غير قادرة على توقيع اتفاق سلام بغض النظر عن تفاصيله. فلماذا إذا مؤتمر أنابوليس؟

الواضح أن المقصود من هذا المؤتمر هو القيام بتجربة تفاوض مع الفلسطينيين، وهم في قمة ضعفهم وعزلتهم دوليا وعربيا وتثبيت بعض التنازلات الجوهرية من الجانب الفلسطيني، فان فشل المؤتمر سيتمكن الصهاينة من نسب هذا الفشل للعرب والفلسطينيين، وان نجح فالمرجح أن تستقيل الحكومة الاسرائيلية الحالية، وأن تدعو إلى انتخابات جديدة قد تسفر عن حكومة قادرة على التوقيع على اتفاق يحقق لها ولو نصراً رمزياً وإيديولوجيا، فضلا عن شرعية سياسية دائمة لإسرائيل.

* كاتب مصري

back to top