يفجر التناقض الصارخ بين استخدام التجليات التكنولوجية الحديثة من جهة وتسخيرها في تكريس هيمنة القبلية على الفضاء الانتخابي من جهة أخرى، تساؤلات عديدة عن جدوى العملية السياسية الكويتية برمتها وعن قدرة البلاد تحديداً على المضي قدماً في إطار تنمية سياسية تنقل الممارسة الديموقراطية نقلات مطلوبة إلى الأمام.منذ إعلان الدستور في عام 1962، وما تلاه من انتخابات برلمانية رائدة في منطقة الخليج، حيث تم تدشين أول مجلس نيابي منتخب في عام 1963، لم تزل الكويت تجترح تجربتها الخاصة في الممارسة البرلمانية، مشكلة نموذجاً فريداً يصعب تكراره في أي من المجتمعات التقليدية مهما تشابهت الأحوال واتفقت المؤثرات.
وضمن سمات تلك التجربة الخاصة، برزت آلية إجراء الانتخابات الفرعية (الفرعيات) في إطار كل قبيلة من القبائل، لاختيار مرشحيها في الانتخابات العامة، سواء كانت برلمانية أو بلدية، بما يؤمن للقبيلة المقاعد التي ترغب في الحصول عليها من جهة، ويتفادى، من جهة أخرى، تفتيت الأصوات أو زرع الشقاق على خلفية استحقاقات التنافس الانتخابي، بما تفرزه من صدامات أو خصومات.
لكن التجربة الكويتية لم تقف فقط عند اختراع «الفرعيات» منذ عام 1975، إذ تمسكت بها أيضاً بعد تجريمها في عام 1999، ثم راحت تبتكر الطرق الفريدة والأفكار المذهلة لممارستها رغم أنف أي معارض، حتى لو كان متسلحاً بقوة القانون أو بوسائل القمع الشرعية.
ففي عام 1999، لجأت إحدى القبائل إلى أسلوب علمي رصين معترف به في المحافل العلمية جميعها لإجراء «فرعيتها»؛ مستخدمة تقنية العينة العشوائية Random Sample، للتغلب على كثرة الأعداد من جهة، وعلى الملاحقة الأمنية من جهة أخرى.
ولما كان هذا الأسلوب منطوياً على شكل من أشكال استبعاد بعضهم من التصويت بالضرورة، ومتضمناً مساحة من الخطأ مقبولة ومسلم بها بطبيعته، فقد تفتقت الأذهان عن استغلال قانون المبرات الخيرية؛ حيث نظمت إحدى القبائل «فرعيتها» بدعوى انتخاب مجلس إدارة لمبرة خيرية، شكلت خصوصاً لإنجاز الانتخابات الفرعية، واختيار مرشحي القبيلة للانتخابات البلدية ثم البرلمانية في نهاية العقد المنصرم.
ومع الانتخابات الجاري الاستعداد لانطلاقها في 17 مايو المقبل، لم تجد بعض القبائل بداً من إجراء «فرعياتها» بشكل علني، متحدية في ذلك رغبة الأمن وإجراءاته لإيقاف تلك الانتخابات المخالفة للقانون، كما لم يجد بعض المشاركين في «الفرعيات» غضاضة في الاعتراف بممارسة هذه «المخالفة» علناً أمام السلطات ومن دون أي ضغط.
الجديد في «فرعيات» الانتخابات المنتظرة تمثل في استخدامها أعلى تجليات التكنولوجيا وأحدثها من هواتف نقالة، ورسائل هاتفية قصيرة، وحواسب آلية لتنظيم ذلك النوع من «الانتخابات التمهيدية» بعيداً عن أعين الأمن، وبأقصى قدر ممكن إدراكه من السرعة والنفاذ والدقة.
تكنولوجيا «الفرعيات» ليست سوى برهان كويتي جديد على الإصرار المجتمعي على تجيير مستحدثات العصر كافة من أجل تكريس قيم القبيلة ونفوذها في مقابل استحقاقات الانتقال إلى الحداثة، أو هي، في صيغة أخرى، مؤشر إلى عدم القدرة على تبني هذا المفهوم للحداثة، في هذا الوقت والظرف الاجتماعي/السياسي بالذات.
يفجر التناقض الصارخ بين استخدام التجليات التكنولوجية الحديثة من جهة وتسخيرها في تكريس هيمنة القبلية على الفضاء الانتخابي من جهة أخرى، تساؤلات عديدة عن جدوى العملية السياسية الكويتية برمتها وعن قدرة البلاد تحديداً على المضي قدماً في إطار تنمية سياسية تنقل الممارسة الديموقراطية نقلات مطلوبة إلى الأمام.
كما يفجر هذا التناقض تساؤلات أيضاً عن صلته بالعلاقات المأزومة دوماً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهي العلاقات التي لم تسمح بتحقيق التقدم المرجو على صعيد العمل الوطني من جهة، وأبقت البلاد، في مراحل كثيرة، رهينة لتجاذبات شكلية ذات منحى صدامي من دون أي اقتراب موضوعي تجاه القضايا ذات الخطورة والشأن من جهة أخرى.
ويبدو أن الجميع باتوا متفقين على أن عوائد الممارسة الديموقراطية ستقتصر، في أغلبها، على إتاحة أعلى قدر ممكن من الانفتاح السياسي وحرية التعبير والاختلاف تحت سقف القانون، أو فوقه إذا اقتضى الأمر.
كما يبدو أنهم مصرون على أن تلك الممارسة يجب أن تستمر في حال «شغل مسرح» دائمة، بحيث لا يخلو المسرح أبداً من عرض مبهج بأصوات وألوان وجمهور متفاعل ونُقاد وسلطة تراقب الالتزام بالنص وأداء الممثلين من بعيد.
لكن اتفاقاً لم يظهر بعد على ضرورة أن تستمر التجربة الديموقراطية في منحى تصاعدي، وأن تتقدم الممارسة الانتخابية إلى الأمام؛ فيتنافس المرشحون على برامج وسياسات، لا على خدمات وهويات اجتماعية أو طائفية، وأن تصاغ العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية على أساس الرغبة في الاتفاق وليس التهميش مقابل الاستهداف، وعلى أن تستخدم منجزات الحداثة فيما يحقق أغراض الحداثة لا فيما ينقضها في الأساس.
* كاتب مصري