Ad

لا يمكن للأيديولوجيا أن تغني عن الدين، وليس بوسعها مهما تكاملت أن تحل محله، أو تلغيه، أو حتى تحيده. فكل من تصور أن هذا ممكن وقع في خطأ فادح، والتجارب كلها التي طُبقت في هذا الاتجاه انتهت إلى فشل ذريع.

هناك اتفاق بين بعض علماء الاجتماع والأنثربولوجيا على أن ظهور الأيديولوجيات ما كان ليحدث في ظل المجتمعات الزراعية السابقة على الثورة الصناعية، نظراً إلى أن الدين والتقاليد كانا يقومان بوظيفة مماثلة لما أصبحت الأيديولوجيا تقوم به فيما بعد. لكن ظهور الأيديولوجيات لم ينه التجليات الاجتماعية للأديان، ولم يقض على الوظائف التي يقوم بها الدين في تفسير بعض المواقف التي يواجهها الإنسان في حياته اليومية، ولم تؤد الدور العقدي للأديان، في جانبها الغيبي، وفي تحقيق الامتلاء الروحي للإنسان، والذي لا غنى عنه لأي شخص سوي.

ويميز عالم الاجتماع فيليب برو بين الأيديولوجيا والدين في كون الأولى لا تقيم علاقة مع المقولات فوق الطبيعية، وبينما تؤسس الأديان وجودها على الوحي، الذي يعني انبثاق المعرقة من مصدر إلهي، تسعى الأيديولوجيات جاهدة إلى إقامة سلطانها على قواعد بشرية.

ولا يمكن للأيديولوجيا أن تغني عن الدين، وليس بوسعها مهما تكاملت أن تحل محله، أو تلغيه، أو حتى تحيده. فكل من تصور أن هذا ممكن وقع في خطأ فادح، والتجارب كلها التي طُبقت في هذا الاتجاه انتهت إلى فشل ذريع. وإذا كان بعضهم يحول الدين إلى أيديولوجيا حين يخلطه بالسياسة، مثلما يفعل اليمين المسيحي المتطرف في أميركا وغيرها، والعديد من الأحزاب اليهودية المتشددة، والجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، المعتدل منها والمتطرف، فإن هذا كله لا يعني أن الدين أيديولوجيا محضة، أو أن الأخيرة بوسعها أن تحقق الامتلاء الروحي والنفسي الذي تمنحه الأديان، وليس بوسع أي فكرة أو نظرية أو توجه أن يحل محل الذات الإلهية في كمالها وعظمتها وقدرتها وجلالها. فسبحان الحي الذي لا يموت، والقيوم الذي لا ينام، من لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، الأول بلا ابتداء ولا شيء قبله، والآخر بلا انتهاء ولا شيء بعده، لا شيء مثله ولا إله غيره.

وهناك حالة وسطى بين الدين والأيديولوجيا. حالة تلبس ثوب الأسطورة، أو الإيمان بزعيم ديني أو قائد سياسي ذي شخصية ملهمة ساحرة، قادرة على التأثير في أتباعه تأثيراً دفيناً وقوياً، بحيث يصبح الواحد منهم بين يديه كالميت بين يدي مغسله، في استسلام تام، واستلاب كامل، وانبهار بكل ما يصدر عنه من قول أو فعل.

ويحضرني في هذا المقام واقعة حدثت بالفعل، وأخرى مختلقة، أو مشكوك بها، ومفندة علمياً على أيدي كثير من المؤرخين والباحثين، ولا يمكن إلا أن تدخل في سياق ما لمسناه في الحركة الصهيونية من أكاذيب، تحت شعار جهنمي يقول: «اكذب اكذب فسيصدقك الناس».

والحادثة الحقيقية وقعت في 18 من نوفمبر عام 1978، حين قام ألف شخص ينتمون إلى فرقة دينية أميركية تدعى «المحفل الشعبي» ظهرت في جيانا بأميركا الجنوبية، بقتل أنفسهم، تنفيذا لأوامر زعيمهم جيم جونز. فهذا الزعيم كان يتوقع رداً عسكرياً أميركياً قاسياً، على قيام الفرقة بقتل أحد أعضاء الكونجرس. وقدم الآباء لأولادهم شراب الكولا ممزوجاً بمادة السيانيد السامة، ثم شربوها بدورهم، فخروا جميعا ساقطين.

وعكس خطاب هذه الفرقة لزعيمها حالة من الولاء الشديد له، فقد كانوا ينادونه بـ»بابا حبيبي». وهاهو أحدهم يقول له:

«بابا أحسن مما وقع لي».

ويقول ثان:

«أنت الذي حررتني».

وثالث:

«أنا كالموزة، قرن في سباطة».

وقبيل الموت قال أحدهم له بامتنان: «هأنذا ارتشف الجرعة»، وآخر قال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: «أموت مغتبطا».

أما الحادثة الملفقة فتقول: «في السنة الرابعة من حكم الإمبراطور فيسباسيان عام 73م آثر تسعمائة وستون يهودياً كانوا في قلعة ماسادا بالقرب من البحر الميت قتل النفس، بعد أن استحثهم قائدهم أليعازر بن يائير على ذلك بدلاً من الاستسلام للرومان. فقتل الرجال أولادهم وزوجاتهم، وهم يعانقونهم للمرة الأخيرة، ثم اختاروا من بينهم عشرة بالقرعة ليتولوا قتل الباقين. واختار هؤلاء العشرة واحدا منهم فقتل التسعة، ثم بعج نفسه ... وقد تخيل المؤرخ يوسيفوس ما قاله أليعازر: فلتمت زوجاتنا قبل أن يسربلهن العار، وليمت أولادنا قبل أن يعرفوا الاسترقاق، فإذا قضوا نحبهم، فليقدم كل منا صنيعاً إلى الآخر، محتفظين بحريتنا لتكون كفنا لائقا بنا».

وخطورة الأيديولوجيات المتكئة على الدين، أو المعتمدة عليه، أو بمعنى أدق التي تستغل الدين في مجال الأيديولوجيا، أن فرصة تطور تفكيرها السياسي تبدو ضعيفة، مقارنة بالأيديولوجيات الوضعية. ففرص التطور أو حدوث «قطيعة معرفية» داخل الأيديولوجيا الدينية تبدو أمراً غاية في الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً.

* كاتب وباحث مصري