Ad

إذا لم تعد الحرب خيار النخب الإسرائيليّة التي بدت وتبدو أكثر حذرا وخشية من خيار كهذا، خصوصا في أعقاب ما جرّت إليه حرب يوليو العام 2006 من نتائج أشبه بالتداعيات المصيريّة أو الوجوديّة لمآلاتها، فإن خيارها للتفاوض لا يعني استقامته، وصولا إلى نهايات منطقيّة مفترضة؛ بتحقيق «سلام موعود» أو «تسوية عتيدة».

هي المرّة الأولى التي تضطر الآلة العسكريّة الإسرائيليّة، أن تأخذ تدريباتها الشاملة على الجبهة الداخلية، طابعا مختلفا عن طابع وأساليب المناورات العسكريّة المعروفة، هذا «الشكل الدفاعي» المعلن على رؤوس أشهاد كامل الحيّز الجغرافي والديموغرافي المعني بمثل هذه التدريبات، وحيث يراد خلق «وعي جمعي» جديد لديه، فحواه أنّ مفاهيم الأمن الجديدة، باتت تتطلّب ما يمكن تسميته بـ«إجماع دفاعيّ»، يتركّز في عدم الإقدام على مقامرة الحرب المجّانيّة المفتوحة، أو مغامرة توجيه الضربات الاستباقيّة، وقائيّا داخل أرض العدو، مما عنى ويعني أنّ التوجّه الراهن وشبه المعلن، بات يلتزم تصميم بناء القوّة العسكريّة وقدراتها اللوجستيّة والاستخباريّة بشكل دفاعي.

وإذا ما كانت الأساطير التأسيسيّة الأولى التي ساهمت في إقامة كيان الاستيطان الصهيوني، وأمدّته بكل الدعم والقوّة الغربيّة، قد فقدت بعض طاقتها على التجدّد والاستمرار، فإن بعض هذه الأساطير، ولو بشكلها المعدّل، خصوصا لدى النخب المهيمنة على السلطة السياسيّة ومواقع القرار العسكري، أن تتواصل، ولكن من دون أن ترقى إلى مزاولة «ألعابها القديمة»، الخاضعة لعقليّة الانتقام التوراتيّة؛ عقليّة التحفّز الدائم لشن الحرب منذ البدء حتى حسمها.

إلاّ أن عقليّة دفاعيّة و«انتصارها»؛ من جرّاء إخفاقات الحرب الأخيرة، والاعتبار من تقرير لجنة فينوغراد وتوصياته، لا يعني بالمطلق أنّ الحكومات الإسرائيليّة المقبلة، لن تلجأ إلى خيارات حربيّة؛ هجوميّة أو دفاعيّة، بل إن مثل هذه الخيارات، قد لا يكون في مقدورها أن ترقى إلى نقل ميدان المعارك إلى أرض العدو، خلال فترة قياسيّة، على ما درجت في حروبها السابقة.

العقليّة الدّفاعيّة التي تنجرّ إليها إسرائيل راهنا، وكانت تدريباتها الشاملة على الجبهة الداخليّة التي طالت المؤسسة العسكريّة والدفاع المدني، أبرز محطّاتها في محاولة لاستعادة هيبة الردع، بعد انحسارها أشواطا بعيدة في حرب يوليو العام 2006، هذه العقليّة لا تعني أنّها يمكن أن تستبعد نهائيّا خيار الحرب العسكريّة، إنّما هي نقلة نوعيّة؛ ضمن مسارات الهجوم الشامل والدائم في سياق خيارات النخب المتحكّمة بالسلطة السياسيّة والعسكريّة الإسرائيليّة، إلى توسيع إطار الخيارات الاضطراريّة؛ التي تشكّل الحرب واحدا منها، وليس الخيار الوحيد على ما درجت العقليّة الإسبرطيّة الإسرائيليّة منذ ستين عاما.

وما تبدو أنّها المهمّة القصوى للتدريبات الداخليّة، لا تتعدّى كونها محاولة استعادة الإجماع الداخلي، لمصلحة سياسات حكومة إيهود أولمرت وطاقمه الوزاري، خصوصا وزير دفاعه إيهود باراك الذي يحاول الظهور بمظهر من لا يبالي بالأساليب المقبلة، عوضا عن القديمة، للحرب التي يمكن أن تلجأ إليها إسرائيل، في مواجهة تهديدات، أو حتى معارك فعليّة ذات امتدادات إقليمية، قد يجرّ إليها الاشتباك المتواصل في غزّة، والتوتّر القائم في الجنوب اللبناني، بل في لبنان كلّه على خلفية التأزّم السياسي، وعلى الأرجح إزاء عمليّة انتقاميّة تردّ على اغتيال المسؤول العسكري لـ«حزب الله» الحاج عماد مغنيّة، وهي العملية التي قد يطول انتظارها، وقد لا تقع، وذلك على قاعدة من توازن رعب متبادل، يأخذ في عين الاعتبار؛ عدم وجود إجماع شعبي، أو سياسي، أو مجتمعي، لدى الطرفين على شنّ حرب واسعة أو مفتوحة، سرعان ما جرى التراجع عن النفخ في أبواقها، بعد حين من إطلاقها، وكل ما يمكن أن تؤدّي إليه عمليّة انتقاميّة، قد لا تتعدّى ردّا موضعيّاً، ولكن غير مسبوق، في قوّته التدميريّة.

وإذا لم تعد الحرب خيارا إسرائيليّا، أو خيار النخب الإسرائيليّة التي بدت وتبدو أكثر حذرا وخشية من خيار كهذا، خصوصا في أعقاب ما جرّت إليه حرب يوليو العام 2006 من نتائج أشبه بالتداعيات المصيريّة أو الوجوديّة لمآلاتها، فإن خيارها للتفاوض لا يعني استقامته، وصولا إلى نهايات منطقيّة مفترضة؛ بتحقيق «سلام موعود» أو «تسوية عتيدة»، وكل ما تسعى إليه العقليّة التي تخوض غمار التفاوض الآن، لا يتعدّى الوصول إلى ترتيبات أمنيّة خاصة لمصلحة إسرائيل، أو على الأقل الوصول إلى «اتفاقيّة إطار» أو «اتفاقيّة مبادئ» أو اتفاقيّة توضع على الرف، ريثما يتمّ التخلّص من عقد لا تساعد حكومة أولمرت، أو أيّ حكومة قادمة، على الظهور بمظهر من يمتلك «قانون الفاعليّة» على قاعدة من التفوّق الاستراتيجي، في محيط من أنظمة رسميّة تفتقد أيّ فاعلية -حتى تكتيكيّة- للأسف.

* كاتب فلسطيني