قوانين الاستضعاف
إن أمعنا النظر، فإن القانون الدولي الذي يمارس هوايته في تعذيب الضعفاء، يشبه كثيراً نظيره المحلي، في البلاد التي سبق أن استضعفت مواطنيها أصلاً. في البلاد التي طالما سلطت القضاء سيفاً على رقبة مواطنيها، أو جعلته أداة في يد الأقوى والأكثر سلطة.
قرأت باستغراب، نبأ قرار الدكتور محمد عزيز شكري أستاذ القانون الدولي، اعتزاله نهائياً لهذا المجال تدريساً وتأليفاً. وذلك لأن «المعمول به حالياً في القانون الدولي غير صحيح، فهو بصيغته الحالية صوت القوي على الضعيف» كما نسب الخبر إلى الأستاذ المخضرم، وهو عميد كلية الحقوق في دمشق سابقاً، ورئيس قسم القانون الدولي فيها لسنوات، وله العديد من المؤلفات في هذا المجال. أذكر أيام الدراسة الجامعية، أنني كنت وكثيرين من زملائي لا نواظب إلا على حضور محاضرات الدكتور شكري، في منهاج السنة الثانية من دراستنا في كلية الحقوق. كان أسلوبه الأكثر تميزاً وبعداً عن الرتابة والتلقين اللذين يسودان أساليب التدريس في بلادنا. ويصعب التصديق أن المادة الأكثر غنى وتنوعاً كما قدمها لنا، هي نفسها التي يهجرها اليوم يأسا وإحباطا ويعتذر لطلابه عما علمه منها «لأن القانون الدولي بات أكذوبة». والدكتور شكري ليس وحيداً في هذا الموقف، فالشكاوى العربية من القانون الدولي الأكذوبة، تسجل يومياً من قبل خبراء القانون والمثقفين والمحللين السياسيين، عبر شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد والكتب. لا أعرف ما الذي تغير في القانون الدولي منذ بدايات نشأته الأولى حتى اللحظة، فجعله شائناً بين ليلة وضحاها، ومكتباتنا القانونية حافلة بكتب كتبت عبر عقود، حول ثغرات هذا القانون وجانبه السياسي الطاغي أحياناً كثيرة على جانبه القانوني، وازدواجية المعايير في التطبيق وسواها. من ناحية أخرى، بماذا يختلف القانون الدولي عن القانون المحلي في المثالب وأخطاء التطبيق؟! صحيح، القانون الدولي بوضعه الحالي هو «ابن السياسة وابنها غير الشرعي أحياناً» كما يقول الدكتور شكري، وهو «بصيغته الحالية صوت القوي على الضعيف». لكن فلنتذكر، أن الضعيف الذي يخذله القانون الدولي، غالباً سبق أن خذله القانون الوطني في البداية. في أي بلد من بلدان منطقتنا السعيدة، يمكن لقانون أن ينتصر لمواطن «مس هيبة الدولة» ذات المشاعر المرهفة كالبلور، أو «ذم وقدح» رئيساً أو ملكاً أو أميراً منزهاً ومعظماً؟ وماذا يفعل القانون أمام سطوة أصحاب النفوذ والحظوة؟ ومتى انتصر للمواطن الضعيف بمواجهة فلان أو علان مقرب من هذه الشخصية في السلطة أو تلك؟ دول المنطقة جميعها تعتز وتفتخر بقضائها الوطني المستقل، وتنبري الأفواه للتصريح في قضايا الرأي العام، تعلقت بالحريات أو الفساد أو غير ذلك، للتأكيد على الثقة بنتائج القضاء العادل النزيه، الذي يطبق القوانين المحلية المنصفة. وتُحفظ قضايا وتُغلق ملفات بقدرة قادر، أو تُصدر أحكام ما أنزل الله بها من سلطان، بقدرة قادر أيضاً. وإن أمعنا النظر، فإن القانون الدولي الذي يمارس هوايته في تعذيب الضعفاء، يشبه كثيراً نظيره المحلي، في البلاد التي سبق أن استضعفت مواطنيها أصلاً. في البلاد التي طالما سلطت القضاء سيفاً على رقبة مواطنيها، أو جعلته أداة في يد الأقوى والأكثر سلطة. لماذا قد يختلف الأمر على صعيد العلاقات الدولية. والسياسة تحكمها المصالح لا القيم والمبادئ، بينما يفترض أن المواطنة تحكمها أمور أخرى غير المصالح والاستئثار بالثروة والسلطة. القانون الدولي يستضعف البلاد المستضعفة من داخلها أولاً. الغارقة في نزاعاتها الداخلية أو التي تغلي فيها تلك النزاعات تحت سطح بارد، أو القابعة نهبا للفساد والاستبداد.وماذا عن الجانب من القانون الدولي، الذي يقع عاتق تطبيقه على الدول داخل حدودها، كالقانون الدولي لحقوق الإنسان. هذا الجانب أكذوبة حقيقية، لكن لا يتم التطرق إليها ولو بكلمة من قبل المتذمرين والنادبين عن حق نقصان أو انعدام العدالة في أحيان كثيرة أثناء تطبيق القانون الدولي في العلاقات بين الدول. كطالبة سابقة للدكتور محمد عزيز شكري، لا أستطيع قبول اعتذاره عن تدريسي تلك «الأكذوبة»، ما لم أتلق اعتذاراً مماثلاً، من أساتذة القانون جميعهم عن المواد كلها في كلية الحقوق، من قانون العقوبات التي يحاكم زملاؤنا على أساسها ظلماً وجوراً، إلى قانون الجنسية الذي لم تطبق مواده حتى الآن على آلاف الأكراد المجردين من الجنسية، إلى القانون الإداري والاستملاكات الظالمة التي تجري في ظله، إلخ... إلخ... إلخ. هل نعتزل جميعاً القوانين الأكاذيب كلها، بدلاً من صراع غير متكافئ بين الأقوياء والضعفاء من أجل تحويلها، تلك القوانين إلى حقيقة! * كاتبة سورية