Ad

إن بذل مطارف الفن ببساطة منطوية على العمق والجمال، هو أمر لا يمكن أن يتأتى إلا لفنان حقيقي قادر على إتقان «صنعة إخفاء الصنعة»، كما قال نقادنا الأوائل، بحيث يبدو عمله العظيم والصعب أليفاً وسهل المأخذ. وذلك بالضبط ما صنعه المخرج «زانغ ييمو» الذي جعل المتفرّج يدهش من أنّ قصّة حب بسيطة تبدو أكثر عذوبة وصدقاً وحرارة من أي قصّة حب سواها!

من بين الإبداعات السينمائية التي تيسر لي أن أشاهدها، في الآونة الأخيرة، استوقفني، على وجه الخصوص، فيلم للمخرج الصيني «زانغ ييمو» عنوانه «الطريق إلى الموطن The Road Home» مقتبس من رواية للكاتب «باو شي».

وقد جعلني هذا الفيلم المتفجر بالأحاسيس الإنسانية الرفيعة، أشعر بأنه جَرعة ماء عذبة، ودفقة هواء نقيّة، يحتاج كل امرئ إلى أخذ نصيبه منهما، في هذا الزمن المكتظ بسموم التلوث البصري والسمعي... والإنساني أيضاً.

يحكي الفيلم قصة حب عادية جداً بين معلم شاب وفتاة قروية، في إحدى قرى الصين الجبلية، أثناء الفترة الممتدة بين نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي.

القصة بسيطة، وطريقة عرضها بسيطة، وتكاليف إنتاجها بسيطة، ومن خلال هذه البساطة الشاملة يتدفق ينبوع ثرّ من الجمال الأخّاذ الذي يغمر بعذوبته أبعد أغوار الرّوح، مؤكداً، بشكل لا مردّ لصدقه، أن البساطة هي مكمن الجمال حقاً.

لكن... من قال إن البساطة سهلة؟!

إن بذل مطارف الفن ببساطة منطوية على العمق والجمال، هو أمر لا يمكن أن يتأتى إلا لفنان حقيقي قادر على إتقان «صنعة إخفاء الصنعة»، كما قال نقادنا الأوائل، بحيث يبدو عمله العظيم والصعب أليفاً وسهل المأخذ.

وذلك بالضبط ما صنعه المخرج «زانغ ييمو» الذي لم يأت إلى ميدان فنه متطفّلاً، بل سعى إليه بالتجربة الذاتية المتواصلة المتعبة، وبالدرس الأكاديمي الجاد والمجهد، منذ بواكير تجربته، التي اضطر خلالها أن يحصل على ثمن أول آلة تصوير فوتوغرافي... من بيع دمه للمستشفى!

يبدأ الفيلم بعودة موظف شاب إلى قريته الجبلية التي لم يزرها منذ عدة أعوام، لانشغاله بعمله في المدينة، وذلك بعد أن تلقى مكالمة هاتفية تخبره بوفاة أبيه العجوز الذي كان يعمل طول حياته مدرساً في القرية.

ولإدراكه ثقل وطأة غياب أبيه على أمه التي كانت تحب زوجها بجنون، عقد الابن النيّة على اصطحابها معه إلى المدينة، لكنه عند وصوله واجه مشكلتين، تمثلت أولاهما في إصرار أمه على البقاء في القرية، برغم الوحدة والعجز، لكي تظل قريبة من مدرسة زوجها الحبيب، أما المشكلة الأخرى فقد بدت أكثر صعوبة وتعقيداً، إذ كانت الأم ترفض بعناد نقل جثة زوجها من مشرحة المدينة بالسيارة، وتُصرّ على أن يجري تشييعه، حسب التقاليد، مشياً على الأقدام من المدينة إلى القرية، في جوٍّ ثلجيٍّ رهيب! وخلال الفترة العصيبة التي كان الشاب فيها يحاول ثني أمه عن رغبتها شبه المستحيلة، يلتقط من فوق أحد الرفوف، صورة قديمة لأمه وأبيه تمثلهما شابين في أيام زواجهما الأولى.

كل هذا نشاهده بالأبيض والأسود، وبينما تتحدّر في ذهن الابن ذكرى قصة الحب الشهيرة في القرية بين أبويه، تقترب الكاميرا من صورتهما القديمة حتى تمتلئ بها الشاشة، وما إن يبدأ الابن برواية تلك القصّة ذهنياً، حتى تتضرّج صورة أبويه الفتيين، تدريجياً، بعافية الألوان الطبيعية المشرقة!

وتلك -لعمري- التفاتة عبقرية فذّة، يستحق المخرج، من أجلها وحدها، جائزة الدّب الفضي التي نالها الفيلم من مهرجان برلين السينمائي في عام 2000.

فلقد تعوّدنا، في جميع الأفلام التي تنتقل بنا من الحاضر إلى الماضي، أن نرى الألوان تبهت حتى تضمحل في أغوار الأبيض والأسود، لكن «زانغ ييمو» يفاجئنا بعكس ذلك، وفوق هذا يقنعنا ويبهرنا بتلك اللمسة المتفرّدة.

إنه بهذه العودة، من الأبيض والأسود إلى الألوان، لم يُرد القول بأنّ الماضي أجمل من الحاضر، بل أراد أن يحقّق فنياً، بدقة وصدق، شرط الانتقال من خريف الحياة إلى ربيعها، وذلك بإعطاء كل فصل منهما لونه الحقيقي، بصرف النظر عما يكتنفه من سعادة أو شقاء.

وبالطريقة نفسها تعامل مع كل جزئية في الفيلم، فلم يغفل عن العناية الكبيرة حتى بالتفاصيل اليومية الصغيرة، ووضْعها في مواضعها المناسبة بدقّة وأمانة، حيث يكتسب شيء تافه كدبّوس الشَّعر، مثلاً، أهميةً بالغة في حياة قروية شابة فقيرة، وكذلك يبدو نول الحياكة القديم عنصراً حيوياً في تضاعيف حياة القروي برغم توفر الأقمشة في الأسواق، كما أن تهشّم طبقٍ خزفيٍّ رخيص يبدو بمنزلة تهشّم عظام إنسان عزيز، خصوصاً إذا كان هذا الطبق يحمل ذكرى آخر وجبة طعام أُعدّت من أجل شخص حبيب فعلاً، الأمر الذي يقتضي حمله -وذلك تفصيل دقيق آخر- إلى طبيب خاص، هو «مُجَبّر» الأواني الخزفية المكسورة!

وإلى ذلك فإنّ المتفرّج ليدهش من أنّ قصّة الحب البسيطة هذه، التي لم تقترب قَطّ من صخب تراجيديا «روميو وجولييت» ولا من مناحة ميلودراما «قيس وليلى» قد بدت، رغم ذلك، أكثر عذوبة وصدقاً وحرارة من كلّ قصّة حب سواها!

وتزداد الدهشة اتساعاً، عندما يتذكّر المتفرّج، بعد انتهاء العرض، أن الحبيب الذي ظل حاضراً طول الوقت، لم يظهر في الواقع إلاّ في عدد محدود من المشاهد، وأنّ الحبيبة التي ملأت الفيلم كلّه، لم تقل له أو تسمع منه كلمة «أحبك»، وأنّ أحداً منهما لم يلمس يد الآخر إطلاقاً ولو من باب التحية، وأن كل ما ظهر من جسد الفتاة هو: يداها ووجهها فقط!

وفوق ذلك سيتذكّر المتفرّج، بدهشة، أنّ ما بدا له من زحام نابض بالحياة، لم يكن في الواقع إلا عدداً محدوداً من الشخصيات، والأكثر من هذا أنه سيكتشف، بعد التشبّع بالتفاصيل، أنّ الشيء الوحيد الذي كان مقتصداً إلى حدّ الشحّ، طول الفيلم، هو «الكلام»... وذلك، في الحق، هو بُعدٌ آخر من أبعاد فطنة المخرج وبراعته. فالكلام، في عرف المختصين بفنّ السينما، هو لغة الإذاعة، أما السينما فينبغي لها ألاّ تُسرف في الحديث بغير لغتها الأم، ولغتها هذه هي: «الصورة».

وفي هذا المنحى يمكننا القول إن «زانغ ييمو» قد تكلّم طويلاً وبكل درجات الصوت، حين سرد لنا القصّة بلسان الكاميرا، على شكل دفقات متوالية من الصور النديّة والمشرقة في آن، وكأنّها مرسومة بالألوان المائية.

كما يمكن القول بأنه كان موفّقاً إلى حدّ بعيد، باختياره الممثلة الشابة، «زانغ زيي» لأداء دور الفتاة القروية، فعلى الرغم من كونه الدور الأول الذي تمثله في السينما «بعد أن اكتشفها المخرج مصادفة، وهي تقدم إعلانات الشامبو في التلفزيون»، فإنها استطاعت أن تحمل عبء ذلك الدور الأساسي بكفاءة عالية، بحيث جعلتنا في النهاية ننحاز بكل عفويّة إلى صفّ العجوز المصرّة على تشييع حبيب عمرها مشياً على الأقدام، برغم طول المسافة ووحشيّة الطقس.

بقي ثمة أمر لا بد من ذكره هنا، بكل أسف، وهو أن «زانغ زيي» لم تبلغ شهرتها الأوسع إلا بعد فيلم «نمر رابض، تنين خفي Dragon Hidden ,Tiger Crouching» الذي أنتجته الثرية الجوفاء «هوليوود»، حيث رأينا هذه الشابة الموهوبة حقاً، منشغلة عن كل تلك المعاني الإنسانية العميقة والنبيلة، بقطع مسافات الوقت والمكان، وهي تمشي أو تركض طيراناً، على وقع المؤثرات الخاصة لحركات «الكونغ فو»!