Ad

تزخر الحضارة الإسلامية وآثارها بالخط العربي الذي أضحى العنصر الفني التشكيلي الأهم، محققاً الوحدة الفنية الرائعة للفنون الإسلامية البالغة 75 نوعاً.

من أنواع الخط العربي الكوفي والكوفي المورق والمزهر والمشجر والمحمل والثلث والرقعة والنسخ والتعليق والنستعليق والفارسي والديواني والريحاني. بقيت منها ستة خطوط تستخدم يوميا واستطاع الخطاط العربي والمسلم بعبقريته وخياله وحسه المرهف اكتشاف مزايا الحرف العربي وصفاته الكامنة من طواعية في التشكيل وقدرة تجميلية وزخرفية مكنته من ابتكار تراكيب سلسة متنوعة توحي بصرياً مضمون الكتابة قبل اللجوء إلى القراءة للتعرف إلى المعاني والأحاسيس التي يبتغيها.

يذكر ابن خلدون في مقدمته أن الخط رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، وهما صناعة شريفة والكتابة من خواص الإنسان وتميّز بها عن الحيوان، تطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض من بلد إلى آخر. وعلى قدر الاجتماع والعمران تكون جودة الخط في المدينة فالخط من الصناعات المدنية التي تقوي وتضعف بقوة الحضارة وضعفها.

أضفى الدين الإسلامي قدسية كبرى على الخط وكانت أولى آيات القرآن الكريم في سورة العلق التي نزل بها الوحي (إقرأ باسم ربك الذي خلق ـ خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحضّ المسلمين على تعلم الكتابة، لذا تنافس المسلمون في اتقانها وتجويدها وقال صلى الله عليه وسلم لمعاوية وكان من كتبة الوحي: «يا معاوية، ألق الدواة وحرف القلم، وانصب الباء وفرق السين ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن وجود الرحيم» أخرجه الهندي. كما حضّ، عليه الصلاة والسلام، على تعليم أزواجه الكتابة عندما سأل الشفاء العدوية أن تقوم بتعليم السيدة حفصة بنت عمر القراءة والكتابة.

شهدت العصور الإسلامية المتعاقبة الكثير من التحولات والتغييرات المتعاقبة التي طرأت على الخط العربي بأروع أشكال الإبداع الفني مذ بدأت تباشير تجويده وإتقانه في العصر الإسلامي المتقدم. أصبح موضع إجلال وتقدير وسمة من سمات الحضارة العربية الإسلامية المميزة على مدى الأجيال المتعاقبة حتى اليوم.

العهد الأموي

وإن كان الخط العربي بدأ من الخط النبطي وهو غير منقوط، إلا أن الخط الكوفي الذي يحلّ في صدارة الخطوط العربية المتميزة لقدرته الهائلة على التشكيل والتأليف المستمر في أشكاله، تفرعت منه الخطوط العربية وتطورت لتصبح لينة ومنسابة على أيدي قائمة مبدعين عبر مسيرة طويلة امتدت منذ بداية العهد الأموي وبدأت كتابة المصاحف مع أمثال قطبة المحرر والوزير ابن مقلة وابن البواب وياقوت المستعصمي وأحمد قره والحافظ عثمان بن علي وكثر وردت أسماؤهم في كتب الخط العربي مثل: القلم والدواة والأنشا، للقلقشندي (821هـ) الذي يقول عن فن الخط: «الخط الحسن يزيد الحق وضوحا» وما كتبه أبو حيان التوحيدي وابن النديم في الفهرست.

ويذكر المؤرخون عن أبن البواب أنه لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كتب مثله ولا قاربه. ويقولون أيضا إن ابن البواب هذب طريقة ابن مقلة ونقّحها وكساها طلاوة وبهجة وقيل عنه إنه كتب بيده 64 مصحفاً وتعهد الأمويون ومن بعدهم العباسيون الاهتمام بفنون الخط العربي وتطويره بإضافة التنقيط والتشكيل إلى حروفه وتجويده. وانتقل بعد أن وثقته الأقلام في المصاحف الأولى إلى فن ذي أصول وقواعد أبدعت في كتابة صفحات القرآن الكريم وبرزت في أجمل نماذج الخط والزخرفة والتذهيب وتلقفته البلاد الإسلامية الجديدة غير العربية فافتتن به أبناؤها من الفنانين والخطاطين وأدركوا مواطن الجمال فيه فأبدعوا فيه وابتكروا منه أساليب خطية جديدة كخط التعليق ثم الذي ابتكره الخطاط الفارسي (مير علي التبريزي) وهو الخط الشائع المستخدم الذي ابتكره الخطاط الفارسي. كما بلغ الخط العربي ذروة الفن والكمال في زمن العثمانيين إذ برع الخطاطون العباقرة الأتراك وتربعوا على عرش فن الخط مخلفين تراثا رائعاً وبلغ من شدة ولعهم بالخط تعلم بعض السلاطين فنه على يد كبار الخطاطين أمثال السلطان محمود خان الذي تعلم على يد الخطاط مصطفى لاقم والسلطان عبدالحميد الثاني على يد الخطاط غزة واعتبر من الخطاطين المهرة، ونال السلطان عبدالحميد الثاني «اجازة» رسمية بمزاولة المهنة أي شهادة موقعة ومجازة من أساتذة الخط الكبار.

ان تيمورلنك أيضاً استقدم خطاطين من أهل بغداد الى قصر ملكه الجديد في سمرقند وان ملك شاه رخ بن تيمور أسس معهدا لفنون الخط والكتابة، وحديثا نسمع بالفنان الأميركي الذي اطلق على نفسه اسم محمد زكريا وقادته دراسة الخط. العربي في تركيا الى اعتناق الاسلام.

تعتبر كتابة الخط وتجويده من الفنون الجميلة التي تتطلب مهارة فائقة ودراسة جادة وممارسة وتدريب لساعات طويلة يوميا حتى ان الخطاطين الكبار يتدربون على الحروف الابجدية الى آخر عمرهم بغية الوصول الى اقصى حالات التجلي. وفي هذا الصدد تورد كتب تاريخ الخط عن الخطاط التركي المعروف الحافظ عثمان بن علي 1105هـ /1693م الذي كتب المصحف الشريف عدة مرات متتالية قوله: لو عرضت علي الخطوط التي أكتبها طوال الاسبوع لعرفت بحاستي الفنية من بينها خطوط يوم السبت إذ تكون اقل مرونة من خط بقية أيام الاسبوع بسبب توقفي عن الكتابة يوم الجمعة.

موروثات

احتفظ خطاطو العربية اليوم بتقاليدهم الابداعية وموروثاتهم المهنية وما طرأ عليه من تنوع عبر التاريخ وحافظا على كلاسيكية الحرف العربي وجماله في ستة انواع من الخطوط الباقية في عالمنا اليوم، هي:

الخط الكوفي الحديث: يختلف عن الخط الكوفي الذي استمر في القرنين الاول والثاني الهجري ونسخت به اكثر المصاحف التي تعود إلى تلك الفترة، اما الخط الكوفي الحديث فليست له قاعدة ثابتة يحاول الخطاط فيه تحقيق التنسيق وخلط الزخارف به وكتب له محمد عبد القادر، تلميذ يوسف احمد من مصر، قاعدة لكنها ثابتة كالتي كتبت في المصاحف.

الخط الفارسي: استخلصه حسن الفارسي في القرن الرابع الهجري من النسخ والرقعة والثلث وكتبت به اللغة الهندية والتركية والعربية والفارسية بطبيعة الحال. طوّره وجمّله وجوّده بو علي البتريزي 919هـ /1513م وعرف باسم «نستعليق» اي النسخ التعليق المعروف حاليا بالفارسي.

خط الثلث: الخط العربي الكلاسيكي ويتصف بالمثالية في جماله وبهاء روعته ومرونته، يستلزم قدرة فائقة وتدريباً متواصلاً.

النسخ: خط واضح بسيط يحتوي على استدارات تحد من الزوايا القائمة والحادة.

الديواني: سمي كذلك لاستخدامه في الديوان العثماني حيث كتبت به الفرامانات والاوامر السلطانية وديوان رقعي وديواني جلي فريق بالتشكيلات والنقاط.

الرقعة: أبسط الخطوط العربية وأسهلها تعلما، حروفه قصيرة ممتلئة وتنتشر استخداماته في الحياة اليومية.

حاول خطاطون الحفاظ على كلاسيكية الحرف العربي وحاول آخرون من الخطاطين والفنانين اعتماده في فضاء الفن التشكيلي الصرف.

دخلت «الحروفية» في ميادين الفنون التشكيلية كلها منذ منتصف القرن الماضي (النحت، التصوير، الخزف، العمارة، الحفر، الاعلان).

يعتمد التكوين في التشكيل الحروفي على الحرف أساساً تأليفياً وليس بالضرورة الحرف او الخط العربي الكلاسيكي وحرفيته أو انماطه التقليدية المعقدة، انما هو استعارة تأليفية مبتكرة لتكوينات تجمع الحروف المساحات والألوان والخامات في صوغ فني معاصر طبقا لقدرة الفنان التشكيلي في تعامله مع ادواته وأفكاره وتقنياته.

يعتبر الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد ان فن الخط مواز للتصوير «فالخط هو الشكل، هو الفراغ، هو المنظور، سكون اللون ودرجة الضوء في اللون... الخط يحدد الشكل ويفرز الفراغ ويصبغ اللون. انه عالم خاص ومواز للرسم» التصويري وهذا موضوع آخر أتناوله في مناسبة اخرى.