Ad

ما يقال عن الأزمات الاستراتيجية يصح أيضاً على الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالطبع أزمات الثقافة، فجميعها يتعرض للتقيح ويعرض الدولة والمجتمع العربي لحالة تحلل طويلة المدى، وهي حالة تختلف تماماً عن الانهيار الذي يجبر المجتمع على البناء من جديد.

توافقت التغطيات الصحفية والإعلامية على أن فشل التوصل إلى حل للأزمة اللبنانية هو السبب وراء فشل قمة دمشق قبل أن تبدأ. وقد يكون هذا التشخيص سليما ولكنه جزئي ويكتفي بما يدور على السطح.

واقع الأمر أن قمة دمشق فشلت لأن القمم العربية عموماً صارت بلا قيمة، وأنها تجسد نموذجاً للسياسة المحرومة من الجذور، وهي لا تحرك أي مشاعر، بل لم تعد تثير اهتمام أو فضول القراء بمن فيهم الشريحة المثقفة، ورغم الهيمنة الطويلة وغير المنازعة تقريبا للاستبداد لم تتمكن القمة من حل أي مشكلة مهمة مما تحفل به أجندتها منذ أن نشأت، والعكس هو الصحيح لأن مشكلاتنا تتقيح ولا تخضع لأي علاج منهجي أو جاد.

وبسبب اليأس من القمة يدعو بعض المفكرين والكتاب إلى بناء «جامعة للشعوب العربية». وتعكس هذه الدعوة توق العناصر الحية في المجتمعات العربية للأمل في التحرر من الاستسلام والضعف فضلا عن القهر السياسي.

وبالمقابل فالدعوة تبدو بعيدة عن الواقعية في المدى المنظور، فلم تعش النظم الاستبدادية العربية طويلا ومن دون أي تغيير في مفهوم الحكم أو السياسة إلا لأن المجتمعات العربية أصيبت بتلف أساسي وفي العمق وليس بمرض بسيط أو قابل للعلاج الموضعي. لقد أخمد أصحاب القمة أنفاس المجتمع العربي وجردوه من القوة ومن القدرة على أن يرى لنفسه ويقدر الأمور بذاته ويستنبط ما يخصه من أحكام ويبدع ما يحتاجه من رؤى وحلول. لم يمت المجتمع العربي موتا طبيا مؤكدا ولكنه صار محروما من مظاهر الحيوية التي كان يفيض بها في الماضي.

ومن هنا فالمجتمعات العربية ليست في حالة تسمح لها بمجرد المطالبة بحلول منجزة للمشكلات العربية، ولم يحدث أن تعرضت القمة لأي ضغوط أو مطالب شعبية جادة طوال تاريخها، فالقدرة على المطالبة تعني تطور وتوسع مؤسسات العمل المدني والجماهيري وتمكنها من الحصول على تفويض ومصداقية حقيقية.

وواقع الأمر أن «قمم» الحكم في العالم العربي لم تسمح أبدا بتطور المجتمعات العربية على الطريق لتكوين هذه القدرات الضرورية لأي مجتمع حديث. بل أدى القمع الطويل إلى شيوع الأمراض في بنية المجتمع وليس في مؤسسات الدولة وحدها. ومن هنا لا يبدو أن المجتمع قادر على إبداع حلول لمشكلاته المباشرة ولا بالطبع للمشكلات العربية المزمنة في الأمد المنظور.

فماذا يحدث عندما لا تأتي الحلول لعالمنا العربي؟ أهم ما يحدث هو أن مشكلاتنا تصبح أبدية وتنتج عقولاً وأفئدة متعلقة بالأبدية السياسية والاجتماعية. وبتعبير أدق فالزمن ليس من بين الأبعاد أو الإحداثيات المهمة في سلوكنا السياسي واختياراتنا الاستراتيجية لأننا فيما يبدو نملك «يقينا» بأنها ستحل في لحظة ما من المسقبل البعيد، ومن ثم فلا نطلب من أنفسنا وضع جداول أو أطر زمنية لأي شيء ولذلك لا تتحرك مشكلاتنا خطوة للأمام إلا إذا كان ذلك استجابة إجبارية لضغوط ومبادرات خارجية. ولا يختلف الزعماء العرب في هذه الخصوصية الثقافية رغم اختلاف الأيديولوجيات والمواقف السياسية والمصالح. وكان الرئيس الراحل أنور السادات يعد إسرائيل بأن حرب أكتوبر 1973 هي آخر الحروب وهو أمر شجعها هي على شن حروبها الإجرامية من دون توقف. ورغم وضوح سخافة هذا الالتزام من جانب واحد فمازال ورثة الساداتية يروجون لخطاب السلام الأبدي. ولذلك لم يتشددوا أبدا عندما رفضت إسرائيل وأميركا الالتزام بالمبادرة العربية أو مجرد إيلائها أي اهتمام.

وبدورهم يراهن المتشددون العرب على الأبدية ويقبلون بحالة لا حرب ولا سلام في انتظار غير مقيد بزمن لحدوث شيء ما. ونكاد ننفرد بين مختلف النظم الثقافية في أن مفهومنا للمقاومة يكاد يرادف حالة احتجاز مجتمعية شاملة. فلا ديموقراطية ولا حريات لأن هناك «مقاومة». ويتم الزج في السجون بعدد من أفضل العقول العربية لمجرد أنها تصدت لمشكلة العلاقة بين سورية ولبنان بصورة مختلفة عن الموقف الرسمي وأطلقت بيانا بذلك. ولا مجال للحديث مع «المقاومين» عن الالتزام بالقانون أو احترام المواثيق الدولية لحقوق الإنسان أو حتى مجرد استعادة احترام العالم بالعودة إلى الحالة «الطبيعية» في علاقة المجتمع بأجهزة الدولة أو مجرد الوعد بإطار زمني مقبول تنطلق بعدها الحياة المدنية الطبيعية كما تمارسها مختلف الأمم. وهكذا تصطدم مدرستان في القمة. الأولى ترى العودة للحياة الطبيعية من دون تحرير أو حقوق تاريخية مع مطاردة إسرائيل من أجل السلام من دون أي إطار زمني. أما الثانية فترفض التسويات السياسية من حيث المبدأ وتطرح إجابة واحدة وهي استراتيجية المقاومة المسلحة كحل نهائي ولو غير مقيد بزمن. وبينما انتهت المدرسة الأولى لتشجيع إسرائيل على العدوان فالمدرسة الثانية سببت آلاما لا تنتهي للشعب الفلسطيني. ويحدث نفس الشيء في لبنان. فمصيرة معلق بين نفس المدرستين وقد يستمر كذلك حتى تنتهي رئاسة بوش لأميركا!

وكانت مشكلة الصومال قد استمرت في الواقع أكثر من عشرين عاما من دون حل ومن دون أن يهتم العرب، أما السودان فمشكلته أكثر بساطة، حذر الجميع من تطبيق حلول عسكرية على واقع عرقي وثقافي معقد، ولكن الحكومة التي جاء بها انقلاب عام 1989 أصرت على «تحقيق النصر» وانتهت إلى القبول باتفاق يمنح الجنوب فرصة الانفصال وسريعا ما بدأت تجرب نفس المنهج في دارفور. وبالطبع لا تبدو في الأفق نهاية معقولة أو مقبولة للأزمتين أو للأزمة الواحدة ذات الفروع المتعددة.

وما يقال عن الأزمات الاستراتيجية يصح أيضا على الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالطبع أزمات الثقافة، فجميعها يتعرض للتقيح ويعرض الدولة والمجتمع العربي لحالة تحلل طويلة المدى، وهي حالة تختلف تماما عن الانهيار الذي يجبر المجتمع على البناء من جديد مثلما حدث في الدول الوريثة للاتحاد السوفييتي، خصوصا روسيا. كما أن حالتنا تختلف بالطبع أيضا عن تجارب وحالات الأحياء الناجمة عن تطبيق استراتيجيات إصلاحية جادة ومدروسة وثبتت نجاعتها على الأقل في مجال معين مثلما يحدث في الصين.

حالتنا ليست فريدة، إذ تشاركنا دول كثيرة في إفريقيا جنوب الصحراء وبعض دول الكاريبي وبعض الدول الآسيوية. فهي تعيش مثلنا في كهف الرضا الكامل عن النفس واليقين المطلق بالاستحقاق وإلقاء المسؤولية الكاملة عن أي أزمة على الآخرين ورفض تطبيق أي مبادرات للتغيير والإصلاح. وفي جميع هذه الدول والحالات يقود مفهوم الحكم الأبدي والمطلق إلى جمود أبدي ومطلق أيضا.

* نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام