الوجه الآثم للعدالة
يغدو من المدهش أن تصدر أحكام الإعدام في جريمة جنائية صِرفة عن محكمة ميدانية عسكرية. والمعروف عن هذه المحكمة الاستثنائية أن أحكامها غير قابلة للطعن، ولا تتوافر فيها حقوق الدفاع، والمحاكمات فيها سرية للغاية، وهي تذكرنا بتلك التي كانت تجري منذ قرون مضت في معظم أوروبا.
يرى آلبير كامو، الفيلسوف والأديب الفرنسي الكبير، أنه «عندما يبارك الأسقف حكم الإعدام، يكون في رأيي قد خرج عن دينه، وحتى عن إنسانيته». وكامو قال مقولته هذه ضمن مناهضته العنيدة لتلك العقوبة، منذ عقود مضت، وهو لم يعش حتى يتسنى له رؤية أوروبا خالية من عقوبة الإعدام ومناهضة لها بشدة، ولم يعش حتى يتسنى له أيضا، رؤية عشرات الدول تستمر في فرض عقوبة الإعدام وتنفيذها بشكلها الأكثر قبحاً، وهو ما يجعل من النقاش بشأن عقوبة الإعدام بحد ذاتها وتفنيد مبرراتها فلسفياً أو أخلاقياً أو ذرائعياً، والدعوة إلى إلغائها، يبدو في مثل مجتمعاتنا كأنه مجرد ترف فكري، يجب أن تسبقه أولاً الإجابة عن عدد من التساؤلات من مثل:من يصدر حكم الإعدام: سلطة قضائية مستقلة نزيهة عادلة، أم قضاء عسكري أم استثنائي يفتقر إلى المعايير الدنيا للعدالة؟! ومن المستهدف بالحكم: عتاة المجرمين أم معارضون سياسيون أم أولئك وهؤلاء؟! وما هدف هذا الحكم: إحقاق «العدالة» أم استعادة سلطة انتقصت هيبتها من قبل المجرمين؟! وهل هو لتحقيق «القصاص العادل» أم لإشباع الشعور بالثأر والانتقام لدى أهل الضحايا أو لدى السلطة أو لديهما معا؟!وأحكام الإعدام التي تنفذ في عدد غير قليل من الدول العربية والإسلامية تحتمل الأجوبة السلبية كلها، من استخدام القضاء الاستثنائي لإصدار مثل تلك الأحكام إلى استهداف معارضين أو«مهرطقين» إلى إحاطة تنفيذ تلك الأحكام بطقوس النصر الاحتفالية.وكنا قد شهدنا في سورية خلال العقد الأخير، تقنيناً واضحاً في مشاهد تنفيذ عقوبات الإعدام العلنية في الساحات العامة، لكنها عادت أخيراً خلال الشهرين الماضيين، بكل فجاجتها وقسوتها وافتقارها إلى العدالة التي ترتكب باسمها، وآخرها كان منذ أيام، في إعدام خمسة شبان في ساحة عامة في حلب، اتهموا بارتكاب جرائم قتل وسلب روّعت المواطنين خلال أشهر عديدة كما قيل.وباعتبارها قضايا جنائية صرفة، يغدو من المدهش أن تصدر أحكام الإعدام تلك عن محكمة ميدانية عسكرية. والمعروف عن هذه المحكمة الاستثنائية، أن أحكامها غير قابلة للطعن، ولا تتوافر فيها حقوق الدفاع، والمحاكمات فيها سرية للغاية، وهي تذكرنا بتلك التي كانت تجري منذ قرون مضت في معظم أوروبا، حيث إجراءات المحاكمة سرية للغاية، وحيث تبقى الإجراءات الجرمية كلها بما فيها الحكم محجوبة ليس عن الجمهور فقط، بل عن المتهم، كما لو أن العدالة يتوجب عليها ألا تخضع لقواعد الحقيقة العامة، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه «المراقبة والمعاقبة». وإذا كان المتهمون قد أحيلوا إلى قضاء استثنائي بمقتضى قانون الطوارئ وبدعوى أن ما نسب إليهم من جرائم يمس السلامة العامة والنظام العام، فإنه من باب أولى أن تكون هذه المحاكمات علنية ومتاحة حتى لوسائل الإعلام المحلية، باعتبارها تمس المجتمع بأكمله وليس فرداً أو أفراداً فيه.ثم هناك الشكل الذي تم به تنفيذ العقوبة، أي الإعدام في ساحة عامة، وإذا تجاوزنا مفارقة المحاكمة السرية والتنفيذ العلني للعقوبة -وهي مفارقة حقيقية، إذ من البديهي في عصر شرعة حقوق الإنسان هو عكس ذلك- فإننا نتساءل: ما هدف العودة إلى الإعدام العلني على المشانق في الساحات العامة؟! في الصور التي نقلتها بعض المواقع الإلكترونية السورية للحدث، يظهر الشبان الخمسة إثر تعرضهم للشنق معلقين في الهواء، وتظهر جمهرة من الناس كانت تتابع عملية التنفيذ. وصفت تلك المواقع بأن الحاضرين من الضحايا وذويهم ومئات المواطنين، صفّقوا وهتفوا إثر تنفيذ الحكم «الله أكبر» و«بالروح بالدم نفديك يا بشار». هذا المشهد الاحتفالي بتطبيق «عدالة» الموت، يرجعنا مرة أخرى إلى العصور الوسطى، حيث كان الجمهور جزءاً من عملية الإعدام، وحيث كانت العملية برمتها أحد أشكال تقوية السلطة وفرض هيبتها بعد جرحها من قبل الجناة المفترضين. وهي في شكلها الآخر بمنزلة إلهام لمشاعر الثأر والانتقام مع الحفاظ على «النقاء» الذاتي، مادامت «العدالة» ستأخذ عن الجمهور مهمة القيام بارتكاب جريمة الثأر. معظم الناس يوافقون على عقوبة الإعدام كما يقول جورج أورويل، لكن معظهم أيضا، يرفضون القيام بوظيفة من ينفّذ عملية الشنق. وبيننا وبينها –أي العدالة- عدة قرون فاتتنا من التطور في النظرية والتطبيق، من الإعلاء من قيمة الكائن البشري وفرادته واحترام حقوقه وحرياته. ومرة أخرى، لسنا نناقش هنا عقوبة الإعدام بحد ذاتها، فما زلنا نبحث في المنظومة القانونية التي تحكمنا والجهاز القضائي الموكل إليه تطبيقها وآليات تنفيذ العقوبة، ما زلنا نبحث عن المفردات الأولية للعدالة في شكلها الخام، وما أبعدنا عنها. * كاتبة سورية