نرد على تحفظ د. النعيمي على الكنائس في قطر بقوله: إن السماح بالكنيسة في قطر تم بقرار «سياسي» وهو يطالب بإجراء استفتاء شعبي «سري» بين الشعب القطري. بالقول: لا يمكن قبول إجراء استفتاء شعبي حول بناء الكنائس لمخالفة ذلك للدستور القطري، ومخالفته للفقه الإسلامي، ومخالفته للواقع التاريخي، وأن الحقوق والحريات ليست محلاً للاستفتاء.أحدثت المقالات حول «بناء الكنائس» في قطر والخليج، تفاعلات صحية إيجابية سواء عبر الصحف الخليجية أو الشبكة العنكبوتية، وتجاوزت النطاق الخليجي إلى الساحة الإعلامية الخارجية، وكان من تداعياتها وتوابعها أن كلاً من الفضائية البريطانية «BBC» والإذاعية «مونت كارلو» استضافتاني للحديث في هذا الموضوع باعتباري ممثلاً للاتجاه المؤيد لبناء الكنائس كما استضافتا الأخ الدكتور نجيب النعيمي وزير العدل القطري السابق والمحامي حالياً ممثلاً للاتجاه المتحفظ، لقد كان حواراً ثرياً خصباً ملتزماً بآداب الحوار وأصول المناظرة، أحببت أن أشرك القراء والجمهور فيه بتقديم خلاصة عنه.
ولإنعاش ذاكرة الجميع أود إعادة التذكير بأهم الحجج التي جاءت في مقالاتي السابقة والمؤيدة لبناء الكنائس سواء في قطر خاصة أو الخليج عامة ومنها:
1 - أن الدستور القطري يقول في مادته 50 ما نصه «حرية العبادة مكفولة للجميع» وفي قطر تعيش جالية تقدر بـ«100» ألف مسيحي، فمن حقهم -دستوريا- مكان للعبادة يمارسون فيها شعائرهم كما أن ذلك من حق أتباع كل الأديان والمعتقدات، حيث إن حرية «التعبد» لا تنفصل عن حرية «المعبد» ومع أن العبادة علاقة بين الإنسان وربه ويمكن ممارستها «سراً» أو في «البيوت» لكن ليس هذا هو الأصل، لأن الشعائر تحتاج في ممارستها إلى «العلانية» وقد تؤدى بصورة «جماعية» ومن هنا كانت حماية «حرية العبادة» تنصرف في النص الدستوري إلى العلانية وبالصورة الجماعية الرسمية.
2 - قطر وعلى امتداد السنوات السبع السابقة أصبحت هي «المستقطبة» لمؤتمرات وندوات حوار الأديان الثلاثة وهي «الحاضنة» لمركز حوار الأديان، ومن المنطقي أن تسمح وتدعم إقامة دور للعبادة لأتباع تلك الأديان.
3 - قطر تحترم مواثيق «حقوق الإنسان» وهي ملتزمة بها، وحرية التعبّد والمعبد، جزء أصيل من تلك الحقوق، بل هي أول تلك الحقوق الإنسانية، والذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد وتوابعها كأنما يسلبه إنسانيته اتبداءً، ومعلوم أن «حرية المعتقد» تلزمها «حرية التعبد والمعبد» وإلا كانت حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة.
4 - قطر تحترم قواعد القانون الدولي ومنها القاعدة الدولية السائدة «المعاملة بالمثل» وهي قاعدة إنسانية وإسلامية أيضاً مشتقة من مبدأ «العدالة» و«عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به» فإذا كانت أوروبا وأميركا تسمح للمسلمين بالمساجد فكيف لا نعاملها بالمثل؟!
وكيف نرضى أن نكون أقل إنصافا وعدالة؟! وللعلم فإن ألمانيا -وحدها- فيها أكثر من «2400» مسجد تعلو مآذنها على الكنائس.
5 - الدين الإسلامي -قرآنا وهدياً نبوياً مستمراً وسلوكاً وتعاملاً راقياً من قبل الصحابة رضوان الله عليهم ومقاصد شرعية- مع إقرار إقامة دور العبادة لغير المسلمين في بلاد المسلمين بل في التزام المسلمين برعايتها وصيانتها وحمايتها، فالقرآن يقول «أن تبرّوهم» و«البرّ» أرقى أنواع السلوك الإنساني وليس من البر حرمانهم من دار للعبادة، والرسول نهى عن إيذائهم أو ظلمهم... والحرمان نوع من الإيذاء والظلم المعنوي، ومعاهدات الصحابة مع أهل الكتاب شاهدة وناطقة بشرعية الكنائس ووجوب حمايتها والقاعدة الفقهية الذهبية تقول «لهم ما لنا وعليهم ما علينا».
6 - الواقع التاريخي الممتد 14 قرناً يشهد بكفالة المسلمين لغير المسلمين كل حقوقهم وحرياتهم ومصاهرتهم، ومن حق الزوجة الكتابية على زوجها المتعلم تمكينها من الكنيسة، وهي حريات لا تتجزأ بل شاملة لجميع الناس ولكل الحريات ومن أهمها الحرية الدينية والعبادة والمعبد.
ونشير هنا إلى أنه لاعبرة بالتقسيمات الفقهية التاريخية بأرض يجوز بناء الكنيسة فيها وأرض مفتوحة لا يجوز، فتلك صنعة «فقهية» لا «شرعية» تجاوزها الزمن، إذ وجدت الكنائس في كل ديار الإسلام ماعدا الحجاز والأماكن المقدسة.
ويبقى للإنصاف أن أقول إن الأخ الدكتور النعيمي لم يعارضني في كثير من هذه المستندات، وهو مع حق المسيحيين في إقامة شعائرهم ولكن في «بيوت» خاصة -غير معلنة- وتحفظه إنما يقتصر على السماح بكنيسة رسمية للمقيمين في قطر وهم غير مواطنين. لكن دعونا نعرض مبررات وأسانيد الدكتور النعيمي في تحفظه، ومنها:
1 - أن قطر -دولة دينية- وليست علمانية كأوروبا، لأن دستورها ينص على أن الإسلام دين الدولة فلا يجوز السماح بكنيسة رسمية تماما مثلما لا تسمح «الفاتيكان» وهي دولة دينية بالمساجد.
2 - أن أوروبا وأميركا، إذ تسمح بالمساجد للمسلمين فذلك لكونهم «مواطنين» هناك.
3 - أنه لا يوجد في قطر «مواطنون» مسيحيون فلا يحق للجاليات الأجنبية المطالبة بكنائس «ولو وجد مسيحي قطري لبنيت له كنيسة» هكذا يقول د.النعيمي.
4 - إن السماح بالكنيسة في قطر تم بقرار «سياسي» غير مؤيد بأي توافق «مجتمعي» وقد يكون استجابة لضغوط أميركية وغربية.
5 - هناك مخاوف من رد فعل مجتمعي سلبي عند افتتاح الكنيسة رسمياً في مارس القادم يخشى منه على الأمن الاجتماعي.
6 - عدم معارضة العلماء لبناء الكنيسة لا يعني موافقتهم لاحتمال خوفهم أو حرصهم على مصالحهم أو من باب المجاملة من قبل «فقهاء السلاطين».
7 - في الختام يكرر ويطالب د. النعيمي بإجراء استفتاء شعبي «سري» بين الشعب القطري «مؤكداً» أن %99 منهم سيرفض بناء الكنيسة في قطر.
هذه أبرز حجج وتحفظات الدكتور النعيمي إن لم تخنّي الذاكرة. وبداية تجب الإشارة إلى أن الدكتور النعيمي هو أول من تحفّظ على بناء الكنائس في قطر قبل 3 سنوات حتى نشرت صحيفة «القاهرة» المصرية في 7 11- 2005- نقلاً عن «غولف نيوز» الإماراتية ما نصه «أعلن المحامي القطري نجيب النعيمي أن أبرشية إنجيلية تخطط لبناء أول كنيسة في قطر على أرض تبرع بها أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، مما قد يتسبب بإثارة المسلمين في قطر خصوصاً إذا لم يتم استشارتهم وقبولهم بهذا الأمر». وقد كتبت رداً عليه بعنوان «مرحباً بالكنيسة الإنجيلية في قطر» بتاريخ 7-11-2005فهو منذ ذلك الوقت لايزال متحفظاً ومتمسكاً بضرورة إجراء استفتاء شعبي عام، فهذا الموقف ليس بجديد إذن.
لكن دعونا نناقش حجج الدكتور في تحفظه:
1 - قطر ليست دولة دينية كما أنها ليست دولة علمانية وهي دولة إسلامية مثل بقية دول الخليج التي نصت دساتيرها على «الإسلام» ومع ذلك سمحت بالكنائس، ولا يمكن قياسها على «الفاتيكان» التي هي دولة دينية لا تسمح بالمساجد. مكة والمدينة والمنطقة القريبة منهما لا تسمح فيها بالكنائس ولا معنى لإدخال منطقة بعيدة كالمنطقة الشرقية في المنع كما قال الشيخ العبيكان في تفسيره لحديث «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب».
2 - اعتراف الغرب بحق المسلمين في إقامة المساجد، منطلقه الاعتراف بـ«حقوق الإنسان» لا «حقوق المواطنة»، والغرب يؤمن بحق أتباع كل الأديان بدور العبادة سواء كانوا مواطنين أو مقيمين بل تتكفل الدولة بالدعم المالي.
3 - يوجد في قطر بعض المسيحيين والمسيحيات يحملون الجنسية القطرية، إما بحكم الزواج من قطريين أو بالتجنس، فمن حقهم التعبد في كنيسة رسمية إضافة إلى حق الجالية المسيحية الكبيرة المقيمة في ذلك.
4 - القرار السياسي بالسماح بإنشاء الكنيسة لم يأت بمعزل عن الساحة المجتمعية، فالحكومة القطرية جزء من مجتمعها ومندمجة فيه وممثلة له، وهي إذ تتخذ قرارها السياسي تراعي البعد المجتمعي وتستمزج الرأي الشرعي وتنطلق من اعتبارات مصلحية عليا للدولة والمجتمع، وعن قناعة ذاتية غير متأثرة بضغوط وإملاءات خارجية.
5 - المخاوف المجتمعية التي أبداها د.النعيمي لاسند أو مؤشرات عليها وهي مجرد هواجس شخصية.
6 - لا يمكن تعميم اتهام العلماء بأنهم «فقهاء السلطان» لأنهم لم يعترضوا، لأنهم يرون أن هذه المسائل من قبيل السياسة الشرعية الموكولة بولي الأمر، ولو وجدوا فيها خروجاً على الثوابت لاعترضوا.
7 - لا يمكن قبول إجراء استفتاء شعبي حول بناء الكنائس لعدة اعتبارات:
أ - مخالفة ذلك للدستور القطري الذي حدد المجالات محل الاستفتاء.
ب - مخالفته للفقه الإسلامي الذي أوكل لولي الأمر مثل هذا الحق.
ج - مخالفته للواقع التاريخي، إذ لم يحصل تاريخياً أن استفتى الحاكم الشعب فيه.
د - أن الحقوق والحريات ليست محلاً للاستفتاء ولو استفتينا الناس على الحقوق والحريات لاهتزت ولتعرضت إلى التضييق والمصادرة.
على أننا ندعي أننا لو أخذنا باقتراح الدكتور وأجرينا الاستفتاء فإننا واثقون من أن الشعب القطري سيساند قيادته السياسية في هذا الأمر ومن يدّعي غير ذلك يجهل طبيعة الشعب القطري.
* عميد كلية الشريعة السابق - جامعة قطر