Ad

دقّ بابها... خبر زلزل كيانها... لم تتوقعه أبداً... لم يخطر على بالها يوماً أن تسمعه. لم يكن خبراً ... كأنّه ديناميت انفجر في أعماقها محولاً إياها إلى إنسانة مهزومة ومتوترة.

بمجرّد سماعها الخبر شعرت بأحلامها تتلاشى وطموحها يخذلها وفنها يخدعها، وأنّ الزمن ضدّها وأدركت أنّ عليها الاعتماد على إصرارها كي تبتعد عن اليأس فيصبح حبّها للحياة أقوى وإدمانها على التحدي أشدّ وعشقها للتفاؤل أكبر.

تجلس شريهان قبالتي بوجهٍ خال من الماكياج وعينين امتلأتا حزناً، تقول: «بعد الحادثة التي تعرضت لها في طريق مصر- الإسكندرية الصحراوي فوجئت بفريق من 17 طبيباً يقرّر أنني سأقضي بقية عمري مقعدةً على كرسي متحرك وطلب مني أن استقبل قضاء الله بقلب مؤمن ونفس راضية. كنت أصلي وأنا نائمة على السرير والجبس يحاصرني من قدمي حتى كتفي. عشت لحظات بين الموت والحياة وقرأت بعيني شهادة وفاتي كفنانة واكتشفت أن الأيام توجه ضربة قوية إلى أحلامي».

تضيف: «كنت أشاهد، وأنا طريحة الفراش في المستشفى، شرائط فيديو أعمالي الاستعراضية وأبكي بحرقةٍ وأنا أسأل نفسي: هل سأعود من جديد؟ هل سأقف أمام الكاميرا وأمثل وأرقص وأغني أم أنّ هذه المرحلة أصبحت مجرد ذكرى عابرة؟ كانت التساؤلات في داخلي تؤلمني ربما أكثر من ظهري المكسور وعظامي المفتتة».

تصمت شريهان وترتشف فنجان قهوتها وتلمع عيناها ببريق الذكرى. تتنهد بحرقةٍ وتضغط على شفتيها بعصبية وتشرد نظراتها بعيداً ثم تردف: «بعد عام من هذه العمليات انتابتني أوجاع غريبة أرغمتني على عدم الحراك فأدركت أنني أصبحت مقعدة، وأنّ الأمل الذي تعلّقت به رحل بلا عودة. نصحني معالجي د. الغوابي بالسفر لإجراء عملية جديدة يجريها الدكتور الفرنسي الشهير رواه كاميه الذي يعتبر أحد القلائل في العالم الذين يملكون خبرة في هذه الجراحات النادرة. وبعد أن عاينني شخّص كاميه أنني أعاني من مسمارين مكسورين أحدهما يسبح في جسدي والآخر تفتت تماماً!»

تنظر اليّ مبتسمةً بأسى وتقول: «تصوّر أنه لا توجد عظمة واحدة في ظهري. لو رأيت صور الأشعة ستصاب بالهلع، وهذا ما دفع كاميه الى نصحي بعدم مزاولة الفن. وأمام إصراري وافق على عملي في التلفزيون فحسب لأنّ المسرح يتطلّب جهداً مضنياً يومياً ربما يهدّد صحتي وحياتي، لكني لم أرضخ إلى أوامره وعدت الى خشبة المسرح الذي يعتبر حياتي وحبي.

طلب مني د. كاميه تخفيض عدد الرقصات في المسرحية من 14 إلى 10 رقصات لأن المسامير البلاتينية المزروعة في جسدي قد تتفتت في أي لحظة. عندما دعوته إلى افتتاح المسرحية لا أنسى انبهاره الشديد وعبارته التي ما زالت تدوي في أذني: «من يراك وأنت ممدة أمامي في غرفة العمليات لا يتخيل أبداً أنك تقفين هكذا على المسرح، أعتقد أنه من حقي أن أكون شديد الغرور بعدما أجريت لك هذه العملية الجراحية الناجحة».

توقفت برهةً لتخرج منديلاً من حقيبتها تمسح به دمعة فلتت من عينيها. سألتها: لماذا تبكين؟

ردّت بصوت واهن: «رحل د. كاميه. مات الإنسان الوحيد الذي يفهم حالتي ويدرك متاعبي ويعرف طبيعة أوجاعي. مات فأحسست أن الجدار الأخير الذي استند عليه انهار وأصبح كومة تراب. أعلم أن الموت حق لكني أعترف لك أنني، منذ سماع هذا الخبر، شعرت بالرعب، وطاردني شبح الألم وتربّص بي العذاب. مرة أخرى وجدت نفسي بلا سند إلا إرادتي، وبلا صديق سوى دموعي، وبلا رفيق سوى فني، وبلا أمل سوى أحلامي لأن حبي للفن يفوق حبي للحياة. جعلتني الدنيا أدفع مقدما فاتورة نجوميتي من بشر خذلوني برحيلهم عني ومن صحة هددتني بالضياع مني».

صنع المستحيل

ترغب شريهان في صنع المستحيل ولديها طاقة كبرى لا تمنحها فرصة للراحة.

سألتها: ممَ تخافين يا شيري؟ غردت بحسم: «بعد كلّ ما مرّ بي لم أعد أخاف من شيء فإيماني القويّ صار حصني ضدّ الخوف، طوال عمري أشعر بأنّ ضميري «صاحٍ» وأعيش دائماً بقلب وعقل مفتوحين. أواجه نفسي باستمرار وأتعلم من أخطائي لأن الخائف هو إنسان يرتعش من عدم الثقة بنفسه وهذا المعنى لا وجود له في حياتي».

عن تصرفها حيال من يستفزها ضحكت وقالت: «لدي عيب كبير جداً وهو أنني لا أملك روحاً رياضية ومن السهل جداً استفزازي وليس لديّ صبر أو جلد في الحوار، لكن من الصعب أن يكسبني إنسان».

أبادرها السؤال: بمَ تنصحين من يريد إقامة علاقة معك؟ فتجيب: «بأقصر الطرق وهي الصدق والبساطة وعدم التكلّف. من يريد أن يتعامل معي يجب أن يعاملني كإنسانة من لحمٍ ودم ومشاعر. مشكلتنا أننا أصبحنا نقيس الناس بما في جيوبهم وبنفوذهم وسلطتهم».

تنهي كلامها موضحةً: «أتمنى أن نستردّ إنسانيتنا التي ضاعت منا لأنّ حياتنا قصيرة ولا تحتمل أن نهين جمالها بقسوتنا في التعامل معها. علمتني المحنة التي عشتها أن الحنان هو أغلى شيء في الدنيا، هذا الحنان الذي أبحث عنه وانتظره وأعيش على أمل الفوز به يوماً بعدما سرقته مني الأيام!»