طهران تعرف تماماً أن وراء حنق بوش الشديد على نجاح زيارة بوتين هلعاً صهيونياً وتحفزاً إسرائيلياً يحاول الدفع باتجاه التصعيد مع طهران إلى الحد الأقصى، بينما تداعى إلى موسكو فزع من نتائج الزيارة التاريخية! إنها لحظة تاريخية حرجة للغاية بلاشك نعيش لحظاتها في هذه الأيام، يقارنها بعضهم بالأشهر الأخيرة قبل إعلان هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وذلك على خلفية خسارة بوش حربه العالمية على الإرهاب وحربه على كل من أفغانستان والعراق معاً! بينما يصر الرئيس بوش على توصيفها بأنها أقرب ما تكون إلى لحظة اندلاع حرب عالمية ثالثة، هدد بها في الواقع القوة الروسية الصاعدة على خلفية انكسار الأحادية الأميركية في العالم أكثر مما هدد بها إيران التي يتهمها بالسعي إلى الحصول على السلاح الذري!
فالمشهد الدولي يبدو في أوج توتره في هذه اللحظة، ونحن نسمع بوش يحذر من حرب عالمية ثالثة قال إنه «أخبر البعض أنه إذا كنتم حريصين على تجنبها فعليكم الاهتمام بمنعهم من الحصول على المعرفة اللازمة لتصنيع سلاح نووي» في إشارة واضحة إلى أنه حمل مثل هذه الرسالة إلى بوتين عندما كان في طريقه إلى طهران، بعد أن فشلت كل مساعيه، ومعه كل حلفائه بمن فيهم الإسرائيلي، في ثني بوتين عن التوجه إلى طهران بما فيها حيلة التهديد باغتياله حسب موجة الإشاعات المنظمة والمدروسة التي ظلت ترافق الرئيس الروسي حتى اللحظة الأخيرة قبل وصول طائرته إلى العاصمة الإيرانية!
فالمعروف أن بوتين تحادث هاتفياً مع أولمرت وكذلك مع الرئيس بوش والتقى العديد من الزعامات الغربية قبل توجهه إلى مقابلة القيادة الإيرانية، وكلهم نصحوه بعدم الذهاب، وهددوه، وإن بشكل غير مباشر كما ذكرنا، من عواقب مثل تلك الزيارة، وعندما فشلوا حملوه رسالة التهديد بحرب عالمية لابد أنه سيرد عليهم بمعلومات وافية وموقف صارم على التهديدات فور عودته إلى بلاده لأنه سيلتقي بوش قريباً بعد أن يكون قد التقى أولمرت الذي هرع إلى ملاقاته في موسكو فور عودته من طهران!
لا أحد منا يعرف مضمون الرسالة التي حملها الرئيس فلاديمير بوتين إلى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، لكن كل من استمع إلى تهديدات بوش الآنفة الذكر وبعض ما ورد في الأنباء على أنه رد للمرشد على «المقترح الخاص» الذي قال لاريجاني إن بوتين عرضه على المرشد بالقول «سنأخذ بالاعتبار حديثكم ومقترحكم... كما سنمضي في التعاون مع الوكالة الذرية... غير أننا مصممون أيضاً على تلبية حاجات البلاد من الطاقة النووية، ولأجل ذلك نأخذ على محمل الجد مسألة تخصيب اليورانيوم... إن المطالب الأميركية لا حدود لها... لهذا السبب فإن الأمة الإيرانية والحكومة، وبينما تتجنبان المغامرة ولا تعطيان الأعذار للأعداء، فإنهما ستواصلان هذا المسار المنطقي» ، فإنه سرعان ما سيكتشف أن القيادة الإيرانية، وإن كانت لم تتهيب من تهديدات بوش وليست بصدد الوقوع في أفخاخ الابتزاز أوالاستفزاز، إلا أنها مصممة على رعاية ظروف وحيثيات الوضع الروسي الخاص الذي تحاول واشنطن أن تبتزه مرة بالتهديد بحرب عالمية كما أعلن بوش، ومرة بمقايضته الدرع الصاروخية بتخصيب اليورانيوم الإيراني كما ورد على لسان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية دانيال فرايد بعد اختتام اجتماع لحلف الأطلسي!
ما الوضع الروسي الخاص؟ ثمة من يقرأ تحركات بوتين الدولية هنا في طهران على أنها تصميم جاد على مواجهة الأحادية الأميركية في قيادة العالم بالتعاون مع الصين وسائر دول العالم الممانعة والمتمردة على الإملاءات الأميركية، ولكن ليس بطريقة المجابهة والمواجهة العسكرية بل بطريقة «الإدارة المشفقة لانكسار الإمبراطورية الأميركية» إذا جاز التعبير.
وهنا تبدو إيران وكأنها ورقة ذهبية ثمينة للغاية متاحة أمام الروس في لعبتهم الدولية الراهنة، كما أنهم مرشحون ليكونوا مرة أخرى «جسر نصر» جديد لقوى التحالف الدولي الذي يتجمع شيئاً فشيئاً ضد الهيمنة وغرور القوة المفرطة الأميركية الراهنة، تماماً كما حصل لهم في نهاية الحرب العالمية الثانية عندما استقبلت طهران الرئيس الروسي جوزيف ستالين إلى جانب كل من ونستون تشرشل والرئيس الأميركي روزفلت وقتها في ما عرف «بقمة جسر النصر» على الأحادية النازية الألمانية التي كانت قد بانت انكساراتها على أكثر من جبهة، ولم يتبق يومها سوى فك الحصار عن الجبهة الروسية المحاصرة عن طريق «الكوريدور» الإيراني الذي فتح أمامها يومذاك!
في مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي الشهير الذي عقد في صيف العام الماضي كان بوتين واضحاً تماماً عندما تحدث عن هذه الورقة الإيرانية الثمينة وهو يدافع عن علاقات بلاده التسلحية معها بالقول «لقد أمدت روسيا إيران بدفاعات جوية لأننا لا نريد الشعور بأننا محاصرون»!
الإيرانيون بالطبع يعرفون تماما قدر هذه الورقة التي يمثلونها بقدر ما يعرفون أنهم لا يستطيعون أن يناموا على «الوسادة الروسية النووية» لذلك فهم مصممون على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع الجميع، لكنهم لن يقايضوا أحداً على أي من عيونهم الثلاث التي يتسلحون بها في معالجة ملفهم النووي، أي العلم والمعرفة والعقل والحكمة والعزيمة والحنكة، بأي جزرة أميركية يعرفون سلفاً أن واشنطن لم تصدق القول يوماً مع أحد في طرحها تماماً، كما أنهم لن يبتزوا بالتهديد بحرب عالمية يعرفون تماماً أن واشنطن ليست في وضع تستطيع ترجمتها إلى واقع بقدر ما هي تستعملها في سوق المساومة الدولية مع منافسيها ورقبائها الدوليين الذين يعدون الخطط «المشفقة» لإخراج واشنطن من ورطاتها ومآزقها ومستنقعاتها الآسنة التي باتت متعددة كما صارت رائحتها تزكم الأنوف!
هذا، كما أن طهران تعرف تماماً أن وراء حنق بوش الشديد على نجاح زيارة بوتين هلعاً صهيونياً وتحفزاً إسرائيلياً يحاول الدفع باتجاه التصعيد مع طهران إلى الحد الأقصى، بينما تداعى إلى موسكو فزع من نتائج الزيارة التاريخية! لكنها تعرف أيضا أن الذي فشل في حروبه الثلاث ضد الإرهاب وأفغانستان والعراق وهزم شر هزيمة أمام بضع مئات من «رجال الله» في لبنان عليه أن يعدّ للألف قبل أن يهدد بحرب عالمية ثالثة هو أعجز من لملمة صداها الدعائي فضلاً عن تنفيذها!
وكما يقول المثل الإيراني الشهير «إن من يرفع حجراً كبيراً يهدد به... خير دليل على عدم جدية تهديده»!
* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي-الإيراني