أسطورة الروايات الصغيرة

نشر في 21-07-2007
آخر تحديث 21-07-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد حكت لي جدتي، مثلما حكت لكم جداتكم، قصصاً بعضها خرافي وبعضها معبأ بالرموز وبعضها تجارب شعبية تناقلتها الجدات عبر العصور وبعضها اخترعته في ذات التوقيت عندما قصرت ذاكرتها واحتججنا أننا سمعنا القصة نفسها التي كانت على وشك روايتها من قبل. واليوم لا أستطيع أن أحكي لأبنائي حتى بعض هذه القصص. وأظن أن هذه هي حالكم أيضاً!

مررت بتجارب شخصية لا حصر لها مع آخرين في مئات من المواقع، وأشعر بالأسف أني لا أكاد أتذكر أكثرها إلا بالصدفة أو عندما يذكّرني بها أحد الأصدقاء. وفي حاراتنا وقرانا ومدننا الصغيرة وفي كل مكان ذهبنا إليه أو انتمينا له حكايات وخبرات بعضها تفسيرات أسطورية لوقائع تقبل تفسيرات واقعية للغاية، وبعضها وقع بالفعل بالطريقة التي يصفها الخيال الشعبي ... واليوم لا أكاد أتذكر معظم هذه الحكايات.

وكان الباعة المتجولون يلقون علينا زجلا بديعا عن أوصاف المدن والمحافظات... وكنت في شبابي عندما أذهب إلى مدينة ما أستدعي ما كان يقوله الزجل الشعبي عنها وأصيح «بالضبط». واليوم أرغب بشدة أن أجد شخصاً واحداً في البلد كله يتذكر ولو بعض هذا الزجل في أوصاف المدن حتى أنشره.

لماذا ذهب معظم، إن لم تكن كل هذه الذكريات والخبرات والحكايات الصغيرة؟ ربما لم تذهب قط، بل انصهرت في التجربة.

وإن كانت قد ذهبت أو انصهرت فلسبب منطقي جداً. فبلادنا وعالمنا يجتذب عقلنا مثلما كان الجبل المغناطيسي يجتذب المراكب البعيدة و يفككها في البحر كما تروي حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة. ليس مهما الآن كيف يحدث ذلك فسيولوجيا، فالأهم هو أنه يحدث لأن الذكريات والوقائع الكبيرة والحاضرة تبتلع الذكريات والوقائع الصغيرة مثلما يبتلع الحوت صغار الأسماك.

واليوم يرى بعض الكتاب أن يفرض علينا وهماً ما بعد «حداثياً» يقول بتفوق الوقائع والروايات الصغيرة على الكبيرة. ويقولون إن الوطنية والقومية ليست غير سرديات كبرى خرافية من صنع عقول مريضة تفرض أيدولوجياتها الشمولية العملاقة على حساب فردية الشخص الإنساني وتفرد تجربته التي تشكلها الوقائع والروايات الصغيرة.

الأطروحة تفتقر تماماً إلى التماسك المنطقي، بل لا تشي بأي منطق.. ويقول عنها المناطقة إنها تشي فقط بمفارقة المعارضات الفاسدة. ويظهر وجه الفساد في مفهوم الرواية أو الخطاب. فما يقوله الدلاليون إن جميع التجارب والخبرات والمدلولات ذاتية. لا فرق هنا بين رواية صغيرة أو رواية كبيرة. الفارق يبدو فقط في نطاق الحكاية أو الدلالة. فالأولى، تخص مجتمعات صغيرة محلية وغالباً ما تكون قد انغلقت فترة طويلة، فكررت مدلولاتها وأسقطته على تجاربها المباشرة. الروايات الكبيرة تخص مجتمعا أو مجتمعات كبيرة ومعقدة ومتحركة بصورة شبه دائمة ومدلولاتها قابلة للتغير مع التعقيد وشدة الاختيار وما ينطوي عليه من محن متغيرة. إننا لا نستطيع أن نفرض رواية كبيرة على رواية صغيرة أو ذاكرة معقدة، ولتكن قومية، على ذاكرة بسيطة، ولتكن وطنية أو محلية. وتقوم الرواية في الحالتين بمهمة أو وظيفة صهر المجتمع في كلية أو كليات أعقد وأوسع من التجربة الفردية المعاشة.

ولكننا لا نستطيع في الوقت نفسه أن نصادر على امتدادات الدلالة الأكبر والأعلى، وإلا كان المطلوب هو العكس: أي فرض الروايات الصغيرة على الروايات الكبيرة وطمس الأخيرة، وهو ما ينطوي على ادعاء أن المحلي وحده، هو الطبيعي بينما القومي مصطنع، وأن المحمول الدلالي في الروايات والسرديات الأوسع لا قيمة له لأنه يحكي عن معانٍ ومصطلحات واسعة لا تتلامس مع خبرة الإنسان البسيط في القرية أو البادية.

الواقع أن العكس يبدو أقرب كثيراً إلى الصواب، بل وإلى الملامسة الفعلية مع التجربة التاريخية للمجتمعات كافة، صغيرة كانت أو كبيرة. ففي المستويات المحلية وحتى في أصغر القرى وأكثرها بعداً عن العواصم والتيار الرئيسي للحياة الثقافية الوطنية والقومية، تنتج الذاكرة تحيزاً واضحاً للحظات التغير الكبرى والتي تحرم المجتمع النووي من بساطته وانغلاقه على ذاته. وحتى بالنسبة لأصغر القرى والجماعات -والكبير منها أيضا- ثمة دائماً أسطورة خاصة بالأصل البعيد، وأسطورة أخرى خاصة بالتغيرات الكبرى التي عصفت بسلام الجماعة وراحتها على رواياتها الصغيرة المكررة. فذاكرة «البراهما» الهنود تمتد إلى اللحظة التي يُعتقد أنهم هاجروا فيها من الشمال الأوروبي إلى جنوب آسيا هرباً من طوفان الثلوج، وذاكرة «اليوروبا» في نيجيريا تمتد إلى اللحظة الأصلية التي يُعتقد أنها أجبرتهم على الرحيل من مصر إلى أبعد نقطة على الساحل الغربي لأفريقيا، وذاكرة اليهود تمتد إلى سيدنا إبراهيم المؤسس، وذاكرة البشرية تمتد إلى لحظة التأسيس الأولى في الخروج من الجنة. ثم تتوالى لحظات خاصة للغاية تحكي عن التحولات والانعراجات والانكسارات والاندماجات والانقسامات وشتى المحن وتجارب الشقاء والسعادة، الهزيمة والانتصار... الخ.

وحتى في أصغر القرى لا تبدو الروايات الصغيرة من نوع ولادة حيوان بشكل إنسان أو العكس، سوى انعكاس أو اسقاط دلالي من تجربة أوسع، أو حكاية أشمل، أو ذهنية تكونت بأثر فكرة أنتجها شعب أكبر ومجتمع أكثر تعقيداً بكثير.

والقول بعكس ذلك إما أن يعكس حالات استثنائية للغاية احتفظت فيها جماعات صغيرة على الهوامش البعيدة لمجتمعات أكبر بانغلاقها وبساطتها لفترة طويلة جداً من الزمن، أو يعكس أمراً أخطر، وهو أيديولوجيا فردانية متطرفة تفرض فرضاً غاشماً أيدولوجيا تنزع الشرعية عن المجتمع الأكبر وتنفي أصالة تجربته باسم الطبيعة أو بغرض تصفية الحساب مع أيدولوجيا خصم أو بديلة.

فقدت منذ زمن ذاكرة بسيطة مستمدة من تجربة الحارة والمدينة، بل والجامعة التي تخرجت منها، وفقدت أيضا الذاكرة البسيطة الرائعة التي حفلت بقصص جدتي. ولشد ما أتمنى استعادة تلك الذاكرة المشدودة بآلاف الروايات حتى أسعد صغاري مثلما كنت أسعد في أحضان الجدة أو على ركبتيها الممتدين إلى جانب شعلة النار الصغيرة التي دأبت على صنع القهوة على نارها الهادئة. ومع ذلك فمضطر أنا للتسليم بأن الواقع أكثر قوة لأنه أكثر عنفاً بكثير، ومضطر أنا للتفاعل لحظة بلحظة مع عوالم وقضايا ليست من صنع تجربتي كفرد، وإنما من صنع قوى أكبر من فرديتي بكثير، ولكنها تفرض ذاتها على الكيفية التي يتشكل بها وجداني الخاص، بل ووجدان أمتي كلها.

أيدولوجيا الروايات الصغيرة تقف وراء فكرة. الفكرة هي ألا شيء يهمنا مما يجري لنا على امتداد وطن يحترق بجحيم العنف وفي أتون حالة استعمارية مستجدة، أو بالأحرى مستردة، ووطن يعاني الهزيمة وانهيار الثقة بالذات، ويغلي بهذا الإحساس الدامي بالعار لعجزه عن تحريك ساعديه، بل والشعور بدفء قلبه أو دمائه التي تسيل أنهاراً، وهو يطعن من كل الاتجاهات الأصلية.

أيدولوجيا الروايات الصغيرة تقول لنا: وماذا يعني ذلك كله بالنسبة إلى طفل فلاح يعيش في قرية قصية في الأطلس المغربي. هذا الطفل لديه ذاكرة عن حدث رهيب حيث يغيب الناس وراء الجبل لأن وحشاً كبيراً أو عفريتاً ظهر لينتقم ممن ظلموه منذ قرنين! فليكن، فالرواية ذاتها دالة على تجربة مغربية وطنية ومشتقة من أساطير قومية عربية، وهي دالة على كل ما يمر بالناس من مظالم على امتداد العالم، والأهم أننا سنقابلها في الدانمرك وبقية شمال أوروبا، كما سنقابلها في الجنوب الأفريقي وربما في سنغافورة.

عيب كبير أن يطرح مثل هذا السؤال في وطننا هذا وفي زماننا هذا، فالوحش لم يأت إلى قرية مغربية بعيدة، بل إلى وطن كبير، وهو لم يأت ليقتص من ظلم، وإنما لإيقاع ظلم كبير بنا كلنا، وهو ليس رواية ننتحلها لإخافة الأطفال، بل واقع مخيف بالفعل للكبار مثل الصغار.

 

كاتب مصري

back to top