ثمة أنماط تمويل جديدة ظهرت أخيراً في الواقع الإعلامي العربي، وربما كانت مسؤولة إلى حد كبير عن الزيادة الملحوظة في الإقبال على إصدار وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة، ولعل أخطرها هو أن ثمة رجال أعمال أو سياسيين أو مسؤولين سابقين أو مجرمين وفاسدين لديهم أموال هائلة جراء عمليات فساد أو تجارة غير مشروعة، قد وجدوا في ميدان الإعلام فرصة لغسل تلك الأموال، وتحسين مكانتهم، وتوطيد دعائم قوتهم في آن واحد.تلعب أنماط التمويل دوراً حاكماً في نشأة أي وسيلة إعلام ومستقبلها؛ فكلما عكس نمط التمويل استقلالية وشفافية، كان حجم التأثيرات الضارة في مصداقية الوسيلة أقل؛ وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام الوسيلة لتحقق مكانة معتبرة بين المنافسين، وتحظى بالقدر اللازم من إقبال الجمهور، إن هي استوفت معايير الأداء المهني في حدها الأدنى.
واليوم، يعرف المشهد الإعلامي العربي زخماً واضحاً في إصدار الوسائل الإعلامية؛ المكتوبة والمسموعة والمرئية والإلكترونية، وهو زخم لم يتوافر من قبل بهذا القدر من الكثافة، بحيث يمكن القول إن وسيلة إعلامية عربية تصدر كل أسبوع على الأقل. ومن ذلك أن عدد القنوات الفضائية الناطقة بالعربية تجاوز الـ 250 قناة، وعدد الصحف المطبوعة في عالمنا العربي تجاوز الـ 1500، فيما تقف طوابير طويلة أمام المصالح الحكومية المعنية في أكثر من بلد عربي، في محاولة لاستصدار ترخيص بإنشاء وسيلة إعلام جديدة.
لا يجد المرء غضاضة في انتعاش صناعة الإعلام وسوقه، بل على العكس، فإن زيادة الإقبال على إنشاء المشروعات الإعلامية دليل صحة في أي مجتمع من المجتمعات؛ إذ تثبت من ناحية أن الاقتصاد الوطني أو الإقليمي ينمو بمعدلات جيدة، تسمح بالإنفاق على وسائل الإعلام تعرضاً وإعلاناً، وتبرهن من ناحية أخرى أن الأوضاع السياسية والاجتماعية تشهد تسامحاً وميلاً نحو الانفتاح والديموقراطية وقبول التعدد الذي يعكسه الإعلام.
في العام 1848، اجتمع عشرة رجال يمثلون ست صحف تصدر في نيويورك، ليؤسسوا وكالة أنباء أسوشييتد برس (أ ب)، كمؤسسة تعاونية غير هادفة إلى الربح، وبموازنة لا تتعدى الـ 20 ألف دولار أميركي. ينتخب المالكون، الذين زاد عددهم لاحقاً باطراد، مجلس المديرين، الذي يعين رئيساً لمجلس الإدارة، يكون مسؤولاً عن إدارة المؤسسة وتوجيه عملياتها. وقد تطورت الوكالة تطوراً ملحوظاً على الصعد كلها، حتى باتت تساهم بنحو %70 في إجمالي الأنباء المتداولة في مختلف وسائل الإعلام الأميركية، فضلاً عن انتشار خدماتها في 121 دولة، والأهم أن شعارها الذي يقول «إن معنى أن يحمل نبأ ما اسم (أسوشييتد برس) هو أن هذا النبأ يتمتع بالدقة والتوازن والإحاطة»، يحظى بتصديق الجمهور وثقته، إذ يعرف الجمهور أن النمط التعاوني ضمن قدراً كبيراً من استقلالية المؤسسة، وجنّبها الخضوع لأي تدخلات من محتكرين أو أصحاب حصص كبيرة أو حكومات وجماعات ضغط.
أما وكالة أنباء «رويترز» التي أسست العام 1865، فقد نشأت على نمط تمويل اقتصادي هادف إلى تحقيق الربح، وهو الأمر الذي أدرك مالك الوكالة أنه لن يتحقق من دون تكريس المصداقية والاستقلالية. لكن الحكومة البريطانية سعت كثيراً إلى السيطرة على توجهات الوكالة، فقدمت لها ما أمكن اعتباره «رشوة مقنعة» مع بداية الحرب العالمية الثانية، لكن الوكالة ما لبثت أن تخلت عن التسهيلات التي حصلت عليها من الحكومة، حينما عرفت أن الثمن يمكن أن يكون سمعتها.
وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب) مازالت تعاني ارتباطها بالدولة الفرنسية، التي تدفع لها إعانة، تتمثل في نسبة من إجمالي نفقاتها السنوية في صورة اشتراكات، وهو الأمر الذي تجتهد الوكالة لنفي أنه يمكن أن ينال من استقلاليتها.
ولا شك أنه كلما كان نمط التمويل في المؤسسة الإعلامية أقل تأثيراً في اتجاه التغطية، كانت الوسيلة أكثر صدقية وتحقيقاً للنجاح. ولعل التميز والقوة النسبيين اللذين تعرفهما الصحافة الكويتية في الإطار العربي عموماً، يرجعان في أحد التفسيرات إلى نمط الملكية الخاص الهادف إلى الربح، الذي بدأت به المؤسسات الصحافية الكويتية، الذي يبعد بالمؤسسة عن سيطرة الدولة ورغبتها في الهيمنة واستخدام الأداة الإعلامية كوسيلة دعاية.
وإلى جانب أنماط التمويل السابقة التي تتمثل في المشروع الخاص الهادف إلى الربح، والنمط التعاوني غير الهادف إلى الربح، والمؤسسة التي ترعاها الدولة وتمول جزءاً كبيراً من نفقاتها، هناك نموذج «الخدمة العامة» الذي تمثله هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وهناك نموذج الوسائل الإعلامية الحكومية الذي يعرفه عدد كبير من بلداننا العربية. ففي هذا النموذج تمتلك الحكومة المؤسسة، ومن ثم تسخرها للدعاية اللازمة لتحقيق أهدافها وتحسين صورتها، وهو الأمر الذي ينسف مصداقية الوسيلة، وينال من قدرتها التنافسية في مواجهة أي بديل محلي أو إقليمي.
لكن ثمة أنماط تمويل جديدة ظهرت أخيراً في الواقع العربي، وربما كانت مسؤولة إلى حد كبير عن الزيادة الملحوظة في الإقبال على إصدار وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة. أول هذه الأنماط؛ نمط «توسيع ركائز القوة»، إذ يقدم صاحب سلطة أو سياسي أو رجل أعمال على إنشاء وسيلة إعلامية لتوطيد ركائز قوته، ومهاجمة خصومه، وتحسين صورته وصيانتها أمام الرأي العام. والنمط الثاني، هو نمط «التحايل الضريبي»؛ إذ يقدم رجل أعمال على امتلاك وسيلة إعلام، يعرف مبدئياً أنها ستحقق خسائر كبيرة، لأنها لا تدار وفق المعايير الاحترافية، لكنه يعلم أن ما تحققه من خسائر سيخصم من الضرائب التي يدفعها على أنشطته الأخرى الرابحة، وبذلك يوسع محفظته الاستثمارية، ويستخدم الوسيلة المملوكة له في الإعلان عن مشروعاته، ودعم حلفائه، ومهاجمة خصومه، من دون أن يخسر شيئاً.
النمط الثالث، هو النمط الأخطر، والذي يمكن مع النمطين السابقين أن يضر بالبيئة الإعلامية العربية ضرراً شديداً يحتاج عقوداً لمعالجة آثاره، فثمة رجال أعمال أو سياسيون أو مسؤولون سابقون أو مجرمون وفاسدون لديهم أموال هائلة جراء عمليات فساد أو تجارة غير مشروعة، وهؤلاء وجدوا في ميدان الإعلام فرصة لغسل تلك الأموال، وتحسين مكانتهم، وتوطيد دعائم قوتهم في آن واحد. يمكن لك أن تعرف هذا إذا استعرضت الأسماء التي تقف وراء العديد من المشروعات الإعلامية العربية الحديثة النشوء أو التي تستعد للصدور اليوم. وفي الوقت ذاته، بات من المعتاد أن تسمع يومياً أن عدداً من رجال الأعمال لديهم حصة مالية معتبرة مرصودة يريدون استثمارها في إنشاء وسيلة إعلامية، من دون أن يكون لهم سابق علاقة بالمجال الإعلامي، أو يمتلكون رؤية أو خطة واضحة للوسيلة المزمع إنشاؤها، أو أي أفكار مسبقة حتى عن نوع الوسيلة ورؤيتها ومفهومها لدورها.
يجب أن تكون هناك سلطة أو جماعة ما يمكن لها أن تبحث هذا الأمر وتستوثق منه وتقيس تداعياته، لأن البديل كارثي، في حال هيمن غاسلو الأموال على صناعة الإعلام في عالمنا العربي، مستغلين التطور الحاصل في النمو الاقتصادي ومجال الحريات.
* كاتب مصري