اليوم أنتهي من الكتابة عما يجري في ميدان التحرير بقلب القاهرة الحديثة.

Ad

يمثل الانشداد لميدان التحرير واحدة من أغرب السمات القومية المصرية، وهي الجاذبية التي لا تكاد تقاوم للدوران حول الذات أو قلب القلب أو داخل الداخل. ولم تنجح السواحل الطويلة للبلاد على بحرين عظيمين في شد قطاعات كبيرة من السكان للحياة فيها إلا أخيراً. وظلت صناعة الصيد محدودة كما ظلت مهارات السباحة محصورة في نسبة ضئيلة من السكان وظل الاهتمام العلمي والعملي بالسواحل والبحار شبه منعدم في هذه البلاد. فهذا البلد يبدو مدفوعاً للنظر للداخل حتى عندما قرر أن يأخذ بمشروع الحداثة.

وظل الاسم الرسمي للانفتاح مرهوناً بصفة الاقتصادي. فلم تنفتح مصر ثقافياً على العالم. بل نظرت إلى ماضيها وأعماق ثقافتها الموروثة حتى منتصف القرن التاسع عشر وعادت إليه بحماسة، وهو ما أصاب البلد بنوع من الفصام: فهي منفتحة تجارياً إلى أقصى حد ومنغلقة ثقافياً إلى أقصى حد.

وبينما سبب الانفتاح التجاري خسارة كبيرة ومزمنة للاقتصاد المصري، فإنه اعتمد بصورة أساسية على جانب آخر تماماً وهو هجرة المصريين للعمل في الخارج. ولفترة طويلة اتجهت هذه الهجرة إلى البلاد العربية المصدرة للنفط التي أتاحت فرصاً للجميع: أصحاب المهارات وعديمي المهارة.

لقد انتهى هذا العصر. ولم يعد سوق العمل في الدول العربية المصدرة للنفط مفتوحاً سوى لأعلى الناس مهارة. ومن هنا اتجه شباب المصريين سواء ممَن يملكون مهارات عالية ومتخصصة وشديدة الدقة والحداثة أو ممَن لا يملكون أي شىء سوى الرغبة في المخاطرة والمغامرة لطلب الهجرة إلى أوروبا. وتستقبل أوروبا، ولو بعد شىء من العنت، أصحاب المهارات العالية بينما تقاوم الزحف الهائل للفئة الأخيرة.

لقد اصطدم الوعي المصري وخصوصاً خلال العام الأخير بحالة آلاف من الشباب الراغبين في المخاطرة بالحياة نفسها لاقتحام أوروبا بصورة غير شرعية. ولأن هذه البلاد لا تريدهم فعليهم أن يقتحموها عن طريق التهرب في سفن ومراكب غير مرخصة، بل وغير مجهزة، وهو ما أدى الى غرق المئات منهم والقبض على آلاف أخرين.

تعكس هذه التجربة التغيرات العاصفة التي ألمت بمصر والمصريين وبتجربتهم الحياتية، بل ورؤيتهم للعالم خلال العقدين الأخيرين.

فهذه هي المرة الأولى في تاريخ مصر التي تحدث فيها هجرة جماهيرية عن طريق البحر، وهي المرة الأولى أيضاً التي يخاطر فيها شباب مصريون بحياتهم لقاء أمل بعيد في الحصول على فرصة عمل في أوروبا.

وربما يدل هذا التحول على انتصار ثقافة «البزنس» والعولمة أو المشروع المضاد للناصرية والقائم على التحرير. العجيب مع ذلك أن هذا التحول يخلو من أي توجه ثقافي نحو أوروبا أو الغرب. فأكثر من تعرفنا عليهم بين غرقى وأسرى المحاولات غير الشرعية للهجرة عبر السفن غير المرخصة من شباب متدين للغاية ويشعر تجاه أوروبا بشكوك ثقافية كبيرة وعميقة ويخالفها، بل ويخشاها في كل شىء. والأكثر طرافة أن أكثر هؤلاء الشباب جاء من أعماق الريف وبعضهم لم يرّ البحر في حياته أو لم يسبح فيه أو لم يخض تجربة الحياة في مدينة ساحلية.

وتبدو هنا مشكلة الفصام واضحة في التجربة الوطنية المصرية في ظل المشروع الساداتي أو مشروع «البزنسة» والعولمة. وكانت علامات هذا الفصام واضحة منذ البداية. فالرئيس الراحل كان يتحدث عن نفسه كما لو كان «أمير المؤمنين» في الوقت الذي كان يدعو فيه إلى الانفتاح ويكاد يتعبد لأمريكا وأوروبا ويمجد ثقافة «البزنس». ومن العجيب أن الفصام انتقل من الرئيس والنخبة التجارية إلى المجتمع. ومن الأمور ذات الدلالة أن المدن الساحلية، وخصوصاً الأسكندرية وبورسعيد، التي يفترض أنهما تنظران إلى أوربا مباشرة، هي أكثر المدن المصرية تأثراً بخطاب الإسلام السياسي سواء الصادر عن الأخوان أو عن الجماعات الجهادية الأكثر انغلاقاً وتشدداً.

* انغلاق الحدود وبناء جدار

ولكن تجربة المخاطرة بالهجرة غير الشرعية في مراكب وسفن بدائية هي تعبير عن محنة الأجيال الشابة التي تعاني نتائج تعليم متدهور واقتصاد لا ينتج وظائف للفقراء. أما ما يحدث في بقية الأطراف ومناطق الحدود المصرية فهو دال على عمق المأزق الذي يواجه هوية مصر وعلاقتها بنفسها وبالعالم العربي عموماً. فالحدود مع الدول العربية جميعها صارت متوترة. ورغم تردد العلاقات السياسية بين مصر وليبيا بين قمة الدفء وقاع الفتور، فالحدود تستقبل المصريين المطرودين من ليبيا أو اليائسين من الحصول على فرصة عمل فيها ولم تعد تسمح بدخولهم. ويبدو أن العلاقات الشعبية ذاتها قد تأثرت سلباً بتجربة العمل المهاجر. وكانت الحدود مع السودان تعكس الاحتقان في العلاقة السياسية بين البلدين. وخلال السنوات الأخيرة نفدت مأساة دارفور عبر هذه الحدود. فمصر صارت لأول مرة بلد استقبال للمهاجرين من السودان ودول شرق أفريقيا. بل إنها صارت معبراً لشباب دارفور الراغب في التهرب لإسرائيل عبر سيناء معرضاً نفسه للاعتقال وإطلاق النار.

ولكن أكثر الأخبار بؤساً وألماً للذات الوطنية المصرية ولهوية مصر ذاتها هو ما أذيع بنهاية الأسبوع الماضي عن بناء «جدار عازل» مع غزة!

إذن مصر ستتصرف مع الشعب الفلسطيني مثل إسرائيل رغم أنها البلد الذي قاد العمل العربي الناجح لإعلان محكمة العدل الدولية للجدار الإسرائيلي العازل كتصرف غير شرعي.

فإن كانت إسرائيل تصرفت على نحو مناقض للشرعية القانونية الدولية، فمصر تتصرف بهذه الخطوة على نحو يناقض شرعيتها السياسية والثقافية والمرتبطة ارتباطاً عميقاً بالصلة العضوية مع الشعب الفلسطيني.

* جسم الحكومة أم عقلها؟!

ميدان التحرير ليس معزولاً عن كل ما يجري في السواحل وعلى الحدود. فهو صار الآن مقر «البزنس» الصغير وليس الكبير، وهو أيضا لايزال مقر جسم الحكومة. أما عقلها فيهرب من الميدان إلى بحار خطرة من دون تجهيزات كافية.

وإن كان ميدان التحرير قد حافظ على أهميته وقد يحصل على المزيد منها، فذلك لأن غالبية المصريين لم يتأثر إلا على نحو سطحي للغاية بالانفتاح و»البزنس». ويثبت الواقع أن مشروع التحرير وحده هو الذي يملك مفتاح التغيير والتقدم الثقافي.

ميدان التحرير يعرف هذه الحقيقة جيداً. ولا تزال فرصة النزهة في ميدان التحرير أمراً لا يعادله شيء. أما التظاهر انتصاراً للقضية الفلسطينية في ميدان التحرير فهو التزام مبدئي لن يتخلى عنه المصريون أبداً مهما كانت «العلقة» التي تنتظرهم من البوليس ساخنة!

* نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام