الفساد الصغير هو حل لعدد غير متناه من المشكلات الصغيرة لمواطنين يريديون تيسير تسيير أعمالهم دونما عراقيل ليصير بعد ذلك ثقافة، أما الفساد الكبير فهو مسألة ميزان قوى اجتماعي. ينال أشخاص نافذون صفقات كبرى لأنهم مقربون من دوائر الحكم العليا، أو ببساطة يضع «واصلون» أيديهم على موارد عامة بالملايين والمليارات لأنهم يجمعون في الأيدي نفسها السلطة والشرعية والحصانة معاً.في استفتاء نادر للرأي أجري أخيراً في سورية رأى 450 من أصل 452 شخصاً مشاركا أن الفساد منتشر في دوائر الدولة. وبينما لم يعف الفساد عن أي مؤسسة عامة، بما فيها الجامعات، كان للجهاز القضائي شرف احتلال المرتبة الأولى. وهو ما يعني ببساطة أنه ليس ثمة ما يحمي السكان أو أن على المواطنين أن يشتروا العدالة لأنفسهم، الأمر الذي لا يستطيعه أصحاب الحق غالباً بينما يسهل على الأقوياء من أصحاب الباطل أن يشتروا أو يفرضوا العدالة التي تناسبهم. وأعاد المستفتون سبب هذا الوباء المستوطن إلى تدني الرواتب والأجور لدى العاملين في الدولة (1355 ألفاً من قوة عمل تبلغ 4859 ألفا)، وإلى ضعف المحاسبة الحكومية للفاسدين.
ويسكت الاستفتاء الذي أجرته صحيفة رسمية سورية عن الجذور الأعمق لهذه الظاهرة. فلن نجد كلمة واحدة عن البنية الولائية لممارسة السلطة في البلاد، أي أولوية الولاء على الكفاءة، والتبعية على الاجتهاد والعلم، وهو ما انعكس طوال العقود الاربعة الأخيرة في قانون سوري خاص: البقاء للسيئ والارتقاء للأسوأ، أي لمن هو مستعد أكثر من غيره ليتزلف ويهتف ويمدح ويصفق لمن هم فوق. يسكت أيضا عن تحزيب الدولة بنص دستوري صريح، ما يعني أن الأولوية للبعثيين في التوظيف والترقي في المناصب العامة ونيل المنح الدراسية... ومن نافل القول إن تحزيب الدولة ينزع عنها صفة دولة الأمة ويجعل منها دولة فئوية. يسكت الاستفتاء كذلك عن الحظر الصارم لأي شكل من أشكال الاحتجاج العام، بما في ذلك الاحتجاج على الفساد نفسه. ويعتقد كثيرون أن رياض سيف اعتقل أول مرة عام 2001 بسبب كراس كان نشره عن صفقة عقود الهاتف الخليوي الذي كان حديثاً وقتها في البلد، وأظهر شبهة فساد قوية في العقود.
والواقع أن من شأن كلمة فساد أن تكون مضللة بالخصوص بسبب حمولتها الأخلاقية التي توحي بأن أصل الظاهرة هو خراب ضمائر بعض الأفراد أو كثير منهم أو حتى كلهم. والحال أنه إن كان لابد من استخدام هذه الكلمة، فينبغي التركيز على الفساد كعلاقة اجتماعية وكأمر يتصل بموازين القوى الاجتماعية وعلاقات الطبقات ونمط التراكم المادي في المجتمع المعني.
على أننا سنكتفي في الحيز المتاح لهذه المقالة بإبراز الاختلاف الكبير بين فسادين يميز بينهما الاقتصاديون: الفساد الصغير والفساد الكبير. الأول هو فساد الموظفين الذي انشغل به الاستفتاء السوري، والثاني هو فساد كبار رجال الدولة ومحظييهم ومَن في حكمهم.
ولا يرتد الفارق بين الفسادين إلى الحجم وحده، كأن يرتشي الفاسد الصغير بعشرات أو مئات أو ألوف الليرات بينما يحظى الفاسد الكبير بمئات الألوف أو الملايين. الفارق الأساسي أن الفساد الصغير ثقافة فيما الفساد الكبير سياسة. كيف؟
الفساد الصغير حل لعدد غير متناه من المشكلات الصغيرة. مشكلات مواطنين يريديون تيسير تسيير أعمالهم دونما عراقيل و«مرمطة» فيضطرون إلى دفع «المعلوم» إلى الموظف أو الشرطي أو حتى الأستاذ الجامعي إذ إنهم لن ينجحوا في مقرر دراسي يدرسه إن لم «يدفعوا». والموظف أو الشرطي... لا يكفيه راتبه في ظل نظام اقتصادي واجتماعي محاب لمالكي الثروات، ويستمد الناس قيمتهم فيه مما يملكون من مال أو يحتلون من مواقع حصينة ومجزية. وبالتدريج تغدو علاقة تبادل المنافع هذه علاقة موضوعية مستقرة، فلا معنى لإدانتها من دون إدانة النظام الذي يقوم عليها.
وإنما لأن الفساد هذا حل، فإنه يمسي ثقافة، فيطور القيم والذرائع اللتين تسوغانه أو تجعلان منه «حلالا»، والأساليب العملية التي تضمن ازدهاره، فيصبح المرتشي «شاطراً» وغير المرتشي غبياً، وقد توصف الرشوة بأنها «هدية» أو «إكرامية»، وتشيع عبارات تطري مَن «نفَّع واستنْفع». وينبغي أن يكون هذا مفهوماً. فإذ يغدو الفساد نمط حياة مستقراً وعلاقة اجتماعية عامة وآلية من آليات توزيع الدخل، فإنه سيحتاج إلى التزود بثقافة، لأن الناس لا يستغنون أبداً عن إضفاء القيم على أنماط حياتهم وعلاقاتهم. فما من لص يصف نفسه أو يرتضي أن يوصف بأنه لص، وما من قاتل لا يحاول أن يبرر جرائمه، أي أن يضفي عليها قيمة واعتباراً.
أما الفساد الكبير فهو مسألة ميزان قوى اجتماعي. ينال أشخاص نافذون صفقات كبرى لأنهم مقربون من دوائر الحكم العليا، أو ببساطة يضع «واصلون» أيديهم على موارد عامة بالملايين والمليارات لأنهم يجمعون في الأيدي نفسها السلطة والشرعية والحصانة معاً، أو قد يظفر محظيوهم بمعاملة امتيازية في تعاقدات الدولة، أو تُسن قوانين «مفصلة» على قياسهم ولا يعلم بصدورها أحد غيرهم، أو يتاح لهم أن يحتكروا قطاع استيراد أو تصدير أو خدمات مجزياً..
ولا يحظى الفساد الكبير بالحصانة إلا إذا ضمن موازين قوى اجتماعي مواتية له، أو ببساطة تسخير أجهزة الدولة التي ينهبها لقمع مَن قد يحتجون على النهب. فالفساد الكبير هو الذي يتوسل الدولة لمراكمة الثروة.
وإنه لأنسب، تالياً، أن نسمي الفساد الكبير عملية سلب ونهب منظمة تمر عبر احتلال الدولة وفتح المجتمع المحكوم، فيما نصف الفساد الصغير بأنه آلية لإعادة توزيع الدخل بين الشرائح الوسطى والدنيا من المجتمع.
* كاتب سوري