كوسوفو... وتركيا وروسيا

نشر في 26-02-2008
آخر تحديث 26-02-2008 | 00:00
 صالح القلاب

من المؤكد أن نهوض روسيا كل هذا النهوض «الكولينالي» المدعوم بتطلعات قيصرية قديمة وبإمكانات اقتصادية هائلة سيخلط الأوراق في المنطقة الشاسعة الواسعة الممتدة من البلقان في الغرب حتى بحر قزوين في الشرق، وبالطبع إذا حصل هذا، فإن تركيا ستكون هدفاً رئيساً لهذا التمدد.

بالإضافة إلى صلة العرق والدم، وبالإضافة إلى الانتماء الديني فإن سبب موقف روسيا الحاد هذا ضد استقلال كوسوفو هو الخوف من «المبدأ». فاستقلال كوسوفو يشجع الشيشان والداغستان وباقي الشعوب القوقازية على أن تحذو حذو المسلمين الألبان في منطقة البلقان، وهذا الأمر بالنسبة للرئيس فلاديمير بوتين يعتبر حجر عثرة في وجه طموحاته التي تصل إلى حدّ استعادة أمجاد القيصر سليل عائلة رومانوف، وأمجاد جوزيف ستالين الذي كان ذا باع طويل في البطش بهذه الشعوب، خصوصاً الشعب الشيشاني الذي فقد نصف عدده خلال تلك الفترة الرهيبة.

إن كل الدول التي وقفت ضد إعلان كوسوفو جمهورية مستقلة إما أنها شُدّت إلى هذا الموقف بسبب التزامات مذهبية-دينية وعرقية تضامناً مع الصرب الأرثوذكس السلافيين أو أنها تخشى التمزّق إذا أصبح هذا المبدأ سارياً ومقبولاً في العالم كله، والحقيقة أن هذا ينطبق على روسيا من الناحيتين، فهي أولاً تعتبر موسكو مركزاً للكنيسة المسيحية الأرثوذوكسية، وهي ثانياً تعتبر نفسها الشقيقة الكبرى لكل العائلة السلافية التي يشكل صرب البلقان أحد فروعها الرئيسة.

في زمن القياصرة كانت سياسة روسيا الأوروبية خصوصاً في منطقة البلقان المهمة والحساسة تقرر على أساس هذين العاملين، أي على أساس الانتماء العرقي السلافي وعلى الرابطة الأرثوذكسية المسيحية، وهذا لم يشذ عنه «الرفاق» الشيوعيون بعد أن أسقطوا النظام القيصري بثورة «أكتوبر» الشهيرة، حيث استطاعوا لاحقاً من خلال معادلة نتائج الحرب العالمية الثانية تحويل كل دول أوروبا الشرقية إلى دول اشتراكية وشيوعية، وكوّنت بها ومعها المعسكر الاشتراكي الشرقي الذي أصبحت موسكو مركزه وعاصمته السياسية والعسكرية والعقائدية وكل شيء.

والآن فإن الرفيق فلاديمير بوتين، الذي يبدو أنه أذكى وأشطر حتى من الرفيق فلاديمير لينين، يهدد بالقوة الغاشمة لمنع كوسوفو من الاستقلال، ومعنى هذا أن العالم بعد فترة محدودة من استنشاق هواء الحرية وتنشق نسيم حق تقرير المصير بات يعود إلى زمن مصادرة حقوق الشعوب المضطهدة والمستضعفة في الانعتاق، وزمن القمع والاستبداد، وإلا ما معنى أن تمد روسيا يدها من فوق رؤوس دول كثيرة وتتدخل في شؤون منطقة بعيدة عنها، والمفترض أنه لا يجوز بل لا يحق لها أن تتدخل في شؤونها.

كل الدول التي تعاني آلام مغص في أمعائها وتخشى من أن يصل إليها مرض التفسخ والانقسام لا تريد لإقليم كوسوفو أن يتحرر، وأن يستقل، وأن يقرر شعبه مصيره بنفسه، ويقيم دولته المستقلة، وهذا ينطبق حتى على تركيا المصابة برعب ما مثله رعب على مستقبلها كدولة كبيرة تتشكل من قوميات وأقليات دينية وإثنية كثيرة، نظراً لأن الأكراد في كل مناطق وجودهم في المنطقة كلها أصبحوا يتحدون واقعهم السابق، وغدوا يفرضون مسألة استقلالهم كدولة قومية على مضطهديهم، وعلى الذين كانوا ومازالوا يرفضون الاعتراف بهم كإحدى أمم الأرض الأخرى.

إن مخاوف تركيا بهذا الخصوص مفهومة ومعروفة ولكن ما يجب أن يفهمه حتى كبار جنرالات مصطفى كمال «أتاتورك» هو أن مشكلة الأتراك التاريخية والفعلية والحقيقية هي مع روسيا وتطلعاتها في كل المراحل والعهود، وأن عليهم أن يدركوا أنه إذا انتعشت النزعة التوسعية في صدر الستالينيين والقياصرة الجدد واستطاعوا أن يفرضوا إرادتهم على البلقان والقوقاز والدول التي تسمى مستقلة، وأغلب الظن أنها ليست كذلك فإن الصداع الذي اسمه الأكراد سيتحول إلى فك ملتهب، وأن ما لم يتم تحقيقه بالنسبة للدولة التي لم ترث من الإمبراطورية العثمانية إلا هذه الرقعة الجغرافية التي تقوم فوقها الآن، أثناء الحرب العالمية الثانية، سيتم تحقيقه خلال السنوات اللاحقة.

من يدري؟! فالمؤكد أن نهوض روسيا كل هذا النهوض «الكولينالي» المدعوم بتطلعات قيصرية قديمة وبإمكانات اقتصادية هائلة سيخلط الأوراق في هذه المنطقة الشاسعة الواسعة كلها الممتدة من البلقان في الغرب حتى بحر قزوين في الشرق، وبالطبع إذا حصل هذا، فإن تركيا ستكون هدفاً رئيساً لهذا التمدد، فالمعادلة كانت دائماً وأبداً: أنه كلما ضعفت تركيا قويت روسيا، وأنه كلما ضعف الروس وانشغلوا بأوضاعهم الداخلية قوي الأتراك، وحافظوا على مكانتهم كقوة إقليمية ودولية فاعلة ومؤثرة في منطقة تعتبر من أهم مناطق العالم الاستراتيجية.

* كاتب وسياسي أردني

back to top