مات جهيمان... فهل ماتت حركته؟ فالأهم هنا هو أن الأثر الذي أحدثه جهيمان بفعله الحركي قد أعيد حياً وبصورة أكثر قسوة، وأشد فتكاً، وأوسع انتشاراً، وأفهم للكونية وتطوراتها، بعد أقل من عشرين عاماً من إعدامه بصورة أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، فكيف حدث ذلك؟لم يكن جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي إلا من أولئك الحالمين بالتغيير عن طريق العنف، انشق عن مدرسته السلفية التي درس بها في المدينة وقرر أن الطريق الوحيد لتأسيس دولة الإسلام هو في إسقاط الحكم في السعودية، وأصدر في سبيل ذلك عدة رسائل أهمها «الرسائل السبع». ومن المهم الإشارة إلى أن طباعة تلك الرسائل تمت في الكويت وكان يتم تهريبها عبر الحدود جنوباً من خلال مؤيديه، الذين كانوا يتنكرون في هيئة رعاة غنم ويخبئون تلك الكتب تحت الخبز اليابس.
من المتوقع أن يكون جهيمان قد ولد عام 1936 في القصيم، نجد، وانضم إلى الحرس الوطني السعودي عام 1955، وترك الحياة العسكرية عام 1973 ليدرس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، حيث استمع إلى محاضرات الشيخ عبدالعزيز بن باز، ولكنه ترك الدراسة مجدداً بعد عام واحد ليعود إلى نجد ويبدأ في تشكيل حلقات من المريدين في إطار نموذج حركة الإخوان (الوهابيين)... ومن ثم بدأ في كتابة رسائله التي تدعو إلى التمرد على الحكم، وبالتالي تكوين حركة باسم «الجماعة السلفية المحتسبة». وهو ما يعد انشقاقاً جذرياً عن الفكر الوهابي السلفي الذي يدعو في أصوله إلى طاعة الحاكم وعدم الخروج عليه.
وهكذا في أواخر السبعينيات استقر في الرياض وأحدثت حركته انشقاقاً في الجسم السلفي سواء أكان ذلك في السعودية أم في الكويت، فكان طرحه جذرياً رافضاً للأنظمة القائمة أو التعامل معها، وأصبحت الكويت بما فيها من مرونة نسبية محطة مهمة لحركته، ولم يكن بالتالي مستغرباً ان كان من جملة الذين تم القبض عليهم عدد من الكويتيين قبيل وأثناء حصار مكة في نوفمبر 1979، ويبدو أنه كان مقرراً أن يلعب الجناح الكويتي دوراً مهماً في طباعة الأدبيات والتهريب والتدريب، خصوصاً انه كان قد تم القبض عليه وعدد من أتباعه في الرياض عام 1978 عندما نظموا مظاهرة مناوئة للنظام، وقد تم الإفراج عنهم بعد أن «استتابهم» الشيخ عبدالعزيز بن باز، فلم تكن السعودية بالتالي الأفضل للتحرك المكشوف.
وهكذا كانت خطة حصار مكة في العشرين من نوفمبر 1979، التي نفذها ومئات من أتباعه قد جاءت في سياق منطقي للتطور الفكري والحركي الذي تسلسل فيه إلى أن تم إعدامه بعد معركة دامية استغرقت أسبوعين هو و67 من أتباعه، وقد رفض جهيمان الحديث طوال فترة اعتقاله، وصورته عبر التلفاز السعودي وهو مكتوف الأيدي مازالت حاضرة في الذهن.
ويُروي أنه لم يتحدث إلا مع مجموعة من علماء الدين الذين زاروه أثناء اعتقاله، وكان أبرزهم الشيخ محمد الشنقيطي وأنهم قد أجهشوا بالبكاء من شدة التأثر للموقف وطلبوا منه تفسيراً شرعياً لفعلته تلك، فكان رده عليهم بأنها ليست إلا فتنة وأن عليهم أن يستغفروا الله، فإن كانوا صادقين في استغفارهم فإن الله سيغفر لهم.
وتم إعدام جهيمان في يناير 1980، مات جهيمان... فهل ماتت حركته؟ وهل كان جهيمان تشي غيفارا بثوب إسلامي؟ أم انه كان خارجاً عن الملة، أم ساذجاً مغامراً؟ الأهم من هذا وذاك هو أن الأثر الذي أحدثه جهيمان بفعله الحركي قد أعيد حياً وبصورة أكثر قسوة، وأشد فتكاً، وأوسع انتشاراً، وأفهم للكونية وتطوراتها، بعد أقل من عشرين عاماً من إعدامه بصورة أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، فكيف حدث ذلك؟ وكيف تطورت الأشياء إلى حالة الاستلاب والتطرف التي لا يبدو أن لها نهاية؟
لقد ارتكز جهيمان في منطلقاته واستلهم معركة «السبلة» الشهيرة التي وقعت في 29 مارس 1929، والتي قضى فيها الملك عبدالعزيز بن سعود على قوة الإخوان، وها هو تنظيم القاعدة يعود ليستلهم بطولة وشجاعة «شهيد ثورة الحرم» كما يطلقون عليها.
فكم من الدروس علينا أن نستلهم لكي نفهم ما جرى وما سوف يجري، فنحن نغرق في بحر من التطرف... وللحديث بقية فالحدث أكبر من أن يتم تجاهله، وأهم من أن يتم دسه تحت السجادة.