Ad

إن هناك مخططاً يجري تنفيذه على مراحل، بما يعني أن المرحلة الجديدة التي هي قيد التنفيذ الآن عنوانها «فرْط» لبنان كدولة، وإخلاؤه من أي وجود عربي يدعم سياسة الحفاظ عليه.

دلالة واحدة لهذا الضغط النفسي الذي يمارس ضد السفارات العربية في لبنان، ومنها سفارة الكويت وسفارة المملكة العربية السعودية، وهي أن الذين يسعون إلى استعادة هيمنة سابقة يريدون «تطفيش» الحضور العربي ثم بعد ذلك الحضور الدولي كي يصبح هذا البلد «سائباً»؛ بلا رئيس جمهورية ولا برلمان وأيضاً بلا حكومة، وكما هو واضح بلا جيش، وهذه هي الأجواء التي جرى استحضارها عشية اندلاع الحرب الأهلية المدمرة في عام 1975.

إنها مرحلة تقتضي إطفاء الأضواء والتخلص من الشهود سلفاً حتى يستطيع المجرم ارتكاب جريمته في إتقان وهدوء واستمتاع، وغير مستبعد أن تكون المرحلة اللاحقة بعد القمة العربية المقبلة، سواء عقدت أم لم تعقد، مرحلة تكميم الصحافة المحلية و«تطفيش» الإعلام الخارجي بقنواته ووسائله كلها، وهذه نصيحة كان أسداها هنري كيسينجر إلى حكومة إسحق رابين الإسرائيلية خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهايات عقد ثمانينيات القرن الماضي: «اقتلوهم وحطموا جماجمهم وكسِّروا عظامهم، ولكن بعد إبعاد عدسات وسائل الإعلام».

لقد أصبح لبنان عملياً من دون مجلس نواب بعد أن أغلق نبيه بري أبوابه وأرسل المفاتيح؛ نسخة إلى أولياء الأمر في دمشق وأخرى إلى الولي الفقيه في طهران، وأصبح من دون رئيس جمهورية، ولأنه لم يتبق إلا شريانان ضعيفان يغذيان القلب اللبناني المرهق والمتعب، لذلك فإنه يجري التضييق الآن على شهود العيان كي يرحلوا ليتم «الاستفراد» بهذا البلد وإعادة تركيبه، وفقاً لمواصفات الأمن المستعار والمصالح الإيرانية في هذه المنطقة.

خلال الحرب الأهلية السابقة التي انفجرت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي واستمرت زهاء خمسة عشر عاماً، تم استهداف السفارة الكويتية أولاً، وكان السفير وقتها عبدالحميد البعيجان، ثم استهداف السفارة السعودية، ثم بعد ذلك «كرَّت المسبحة» وجرى «تطفيش» السفارات العربية كلها، ومعظم السفارات الأجنبية، وهكذا أصبح لبنان بلداً سائباً، فأصبح الأمن الشقيق المستعار مطلباً حتى من قبل الذين تصدوا له بالرصاص في مرحلة من المراحل.

الآن يجري الشيء نفسه وسيتم استكمال الترتيبات، وإذا بقيت الأمور تسير على هذا النحو، ليصبح لبنان أرضاً «مشاعاً» وليقدم الذين استباحوه أكثر من ثلاثين عاماً أنفسهم كمخلّصين، وعلى غرار ما جرى في عام 1976 عندما أراد الإسرائيليون والأميركيون التخلص من منظمة التحرير والتعامل مع وكيل واحد، فأغمضوا عيونهم عما جرى، وهذا انسحب أيضاً على الاتحاد السوفييتي الذي أبدى تذمراً في البدايات، لكنه ما لبث أن أذْعَنَ للأمر الواقع.

إن المؤكد أن الدول العربية تعرف هذا وأكثر منه كثيراً أيضاً، ولكنها تفضل الصمت، لأنها تعتقد أن بإمكانها معالجة الأبريق الزجاجي المشعور بالأساليب الدبلوماسية الهادئة، لكن، وهذا أيضاً تعرفه هذه الدول، ما هو واضح تمام الوضوح أن هناك مخططاً يجري تنفيذه على مراحل، بما يعني أن المرحلة الجديدة التي هي قيد التنفيذ الآن عنوانها «فرْط» لبنان كدولة، وإخلاؤه من أي وجود عربي يدعم سياسة الحفاظ عليه.

لم تفعل الكويت إلا الخير للبنان ولأشقائها العرب كلهم وهي، وتلك حقيقة، بقيت تحافظ كعادتها على اتباع سياسة هادئة بعيدة عن الاستعراضية والتحيز والانحياز، لذلك فإنه مستغرب أن تستهدف بهذه الطريقة، وأن تتلقى سفارتها هذه التهديدات التي تلقتها. وهنا فإن ما يجب الإشارة إليه والتأكيد عليه، هو أن الشجرة المثمرة هي التي يقذفها الجاحدون بالحجارة... فأشجار الزقوم تبقى سليمة لأن ثمارها مُرَّة، ولأنها أساساً من أشجار جهنم.

* كاتب وسياسي أردني