المدونون في الأرض
ينتج المدونون إعلاماً قليل التكلفة، لا يفتقد إلى أساليب التشويق والإثارة، ويفتح الطريق أمام أعداد غفيرة لتصبح ناقلة للمعلومات والمعارف، من غير حاجة إلى مؤسسات إعلامية، تحتاج إلى المال والرجال. لكن التدوين لا ينجو هو الآخر من مشكلات، بدءاً من احتمال تكريسه للنضال الإلكتروني الفردي بديلاً عن الكفاح الاجتماعي المباشر من أجل نيل الحقوق، فضلاً عن مشكلات التثبت من دقة وصدقية المعلومات التي تتعرض لها.
ما إن تدخل إلى شبكة الإنترنت باحثاً عن موضوعات حول التعذيب والسجال الديني والثقافي والحريات العامة حتى تطل عليك مواقع خاصة، تتفاوت في قيمتها المعرفية وقامتها الفنية، وفي حجم المعلومات المحتشدة داخلها، وفي المشارب التي تنهل منها، والاتجاهات التي تحكمها. لكنها جميعاً تنزع إلى التحرر من القيود التي تفرضها السلطة على حرية الرأي والتعبير، وإلى تعويض المحرومين من الظهور في وسائل الإعلام الأخرى، أو الذين لا يمكن لوسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية والخاصة أن تنشر آراءهم أو تبثها، إما خوفاً أو تردداً أو في إطار ما هو مرسوم لوسائل الإعلام تلك من خط لا يمكنها أن تتعداه، من دون عقاب.لكن السلطة في العالم العربي، التي اعتادت أن تتحكم في مصادر المعلومات وتدس أنفسها في كل شيء، وتتوسل بالأمن فقط لحفظ استمرارها، تضيق ذرعاً بالمدونين، بعد أن أثبتوا قدرة فائقة على التأثير، إلى درجة أن العديد من الصحف المطبوعة استعارت مواد بثها مدونون على الإنترنت، وأعادت نشرها، فصنعت بها حملة إعلامية مشهودة، بل وصل الأمر إلى أن بعض الصحف تحولت إلى ما يشبه «المدونات الورقية»، حين فتحت الباب للمحررين فيها أن يكتبوا خواطرهم وآراءهم ويرصوها على الورق رصاً فتصير في نهاية المطاف «جريدة» كاملة، يدفع بها إلى السوق، ويقبل عليها نوع معين من القراء.ويبلغ تقدير التدوين والدفاع عن حريته مداه في حركة الاحتجاج ضد قرار السلطات في مصر بمحاكمة أحد المدونين، حيث تظاهر مصريون أمام عشرة سفارات أجنبية في الخارج غضباً من هذا القرار، خصوصاً بعد أن دأبت السلطة على سجن مدونين وملاحقتهم ومطاردتهم، والتعامل معهم وكأنهم ينتمون إلى جماعة سياسية محظورة، أو تنظيم سري، يشكل تهديداً للأمن والاستقرار العام.ورغم أن وسائل الاتصال الإلكترونية أكثر تحصناً ضد تدخل السلطة، فإن الأخيرة لم تعدم الوسائل في سعيها الدؤوب لتضييق الخناق على حرية الرأي والتعبير، وفرض قيود على التواصل بين الناس وحقهم في الحصول على المعلومات. ومن بين هذه الوسائل التحكم بقدر الإمكان من المنبع في إنشاء المواقع الإلكترونية، والتسميم والتدمير المنظم للمواقع غير المرغوب فيها لدى السلطات، وإلزام شركات الاتصال بالمسؤولية عما يبث من معلومات على المواقع التابعة لها، والحرص على أن يظل استخدام «الإنترنت» مرتفع التكلفة، حتى لا تتسع القاعدة الجماهيرية التي تتعامل وتتفاعل مع هذا النوع من الإعلام، وامتلاك أجهزة باهظة الثمن لمراقبة البريد الإلكتروني، وإلزام أصحاب «مقاهي الإنترنت» بضرورة الإطلاع وتسجيل هوية المترددين عليها، وتوجيهيهم لمنع زبائنهم من الدخول على مواقع معينة. لكن كل هذه القيود لم تفلح في منع المدونين من أن يستمروا في عملهم، مستخدمين أعلى إمكانيات للاتصال وفرتها التكنولوجيا الحديثة، مثل الهواتف النقالة والكاميرات المثبتة في قلوبها، وأجهزة الحاسوب المحمولة، وكذلك الوسائل التقليدية لجمع المعلومات مثل إفادات شهود العيان والإخباريين، الملتصقين بالأحداث، الذين لا تصل إليهم وسائط الإعلام الأخرى، مثل التلفزيون والإذاعة والصحف.كما يستغل المدونون خطوط الاتصال السريعة والمفتوحة للبريد الإلكتروني، فيتزودون بالمعلومات التي يمدهم بها الأصدقاء والزملاء والمعنيين بنشر بيانات معينة، ومواقف وآراء حول القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطروحة. ومن هنا ينتج المدونون إعلاماً قليل التكلفة، لا يفتقد إلى أساليب التشويق والإثارة، ويفتح الطريق أمام أعداد غفيرة لتصبح ناقلة للمعلومات والمعارف، من غير حاجة إلى مؤسسات إعلامية، تحتاج إلى المال والرجال، كي تؤدي واجبها، في تبصير الرأي العام بما يجري، وفضح المسكوت عنه، وتوسيع المشاركة في الرأس والمشورة حول قضايانا الجارية، في ظل تحايل واسع على القيود والتحكمات التي تفرضها السلطة ضد حرية التعبير، وإنهاء احتكار المعلومات، وتلبية حاجة قطاعات من الجمهور إلى مصادر أخرى لمتابعة الأحداث، خصوصاً مع انصراف الناس تدريجياً في بلدنا عن الإعلام الرسمي، الذي يفتقد إلى المصداقية، ويفتقر إلى الشكل الجيد والمضمون الثري، نظراً إلى تراجع مستوى المهنية، وضيق هامش الحرية، علاوة على سوء غالبية مواقع الإنترنت المصرية الرسمية وفقرها، وعدم الاهتمام بتحديثها. لكن التدوين لا ينجو هو الآخر من مشكلات، بدءاً من احتمال تكريسه للنضال الإلكتروني الفردي بديلاً عن الكفاح الاجتماعي المباشر من أجل نيل الحقوق، وتحسين شروط الحياة عبر وسائل المقاومة المعروفة للاستبداد والفساد، وانتهاء بمعاناة التدوين من مشكلة التثبت من صحة وصدق المعلومات، ومدى إمكانية مراجعتها وتغييرها إن ثبت خطؤها، إلى جانب وقوع بعض المدونين في فخ انتهاك الحرمات الشخصية والحريات الاجتماعية، سواء كان هذا يتم عن عمد أو من دون قصد، وكذلك الانخراط الممقوت في السجال العقائدي، أو استغلال بعض المدونين للمساحات الإلكترونية في التشهير ببعضهم أو مدح أعمال علمية وأدبية وفنية ضعيفة أو هابطة.* كاتب وباحث مصري