Ad

إن العماد سليمان لعب دوراً متوازناً وكان بمنزلة ميزان وطني دقيق وحساس، منذ تجديد الولاية ثلاث سنوات لسلفه العماد إميل لحود. وخلال فترة الحرب مع إسرائيل في 2006، تمسك سليمان، بل تشدد في القتال إلى جانب المقاومة، مما أزعج عدداً من المراهنين السياسيين.

بعد أن رمت حكومة الموالاة قفاز التحدي في وجه المعارضة بممارستها صلاحيات رئيس الجمهورية الغائب وبتحويل مشروع قانون تعديل الدستور إلى مجلس النواب المقفل، بقيت أسئلة عديدة معلقة في الهواء، لا أحد بإمكانه الإجابة عنها إلا إذا كان ضليعاً في علم الماورائيات:

السؤال الأول: أين يقف قائد الجيش العماد ميشال سليمان؟ وهل يرضى بانتخابه رئيساً بـ«النصف زائد واحد»؟ واستطراداً هل يعتذر عن قبول ترشيح الآخرين له؟ وبالتالي هل يعود إلى بذلته العسكرية ويمارس دوره كقائد للجيش، بعيداً عن السياسة والسياسيين حيث يقوم بواجبه الوطني في حماية البلاد والعباد من عبث العابثين ومؤامرات الطوابير الخامسة المحلية والإقليمية والدولية؟

ثمة معطيات يمكن الاعتماد عليها في الرد على هذا السؤال المتشعب وغيره، أو على جزء منها في أحسن الحالات.

فوزي صلوخ، وزير الخارجية المستقيل من حكومة السنيورة منذ أكثر من سنة، والذي يصر على ممارسة نشاطه شبه اليومي لمراقبة وإفساد خطط الوزير بالوكالة طارق متري الذي يحمل، مع غيره من الوزراء، أختام رئيس الحكومة فؤاد السنيورة. صلوخ كلفته المعارضة بشكل عام ورئيس مجلس النواب بشكل خاص نقل رسالة إلى العماد ميشال سليمان. قام بزيارته في مكتبه باليرزة حيث أمضى معه ساعة واحدة، شرح له خلالها موقف المعارضة الحقيقي من ترشيحه لرئاسة الجمهورية. قال له إن المعارضة تعتبر نجاحه في تولي رئاسة الجمهورية بمنزلة نجاح لها بامتياز. وهي أي المعارضة بإصرارها على ألّا يتم ذلك إلا بعد التفاهم والتوافق مع الموالاة على تشكيل أول حكومة في عهده يكون له فيها العدد الكافي من الوزراء، بالإضافة إلى حصة المعارضة في ثلث عدد الوزراء الذي تصر الموالاة على تسميته بالثلث المعطل، وتتشبث المعارضة بدورها على تسميته بالثلث الضامن أو الثلث المشارك لا فرق... هذا الأمر هو من قبيل إبعاده عن الكأس المرّة التي تجرعها سلفه العماد إميل لحود حتى الثمالة طوال ثلاث سنوات من حكمه المجدد بعد انتهاء ولايته الدستورية الأولى. وقال صلوخ لسليمان أيضاً ما معناه: نحن حريصون عليك بالمستوى ذاته الذي نحرص فيه على تماسك المعارضة. إن الموالاة تسعى جاهدة وبكل الطرق والأساليب إلى زرع الفرقة والشقاق بيننا وبينك عن طريق إصرارها المشكوك فيه بانتخابك وإيصالك إلى قصر بعبدا عارياً لا حول لك ولا قوة إلا الإذعان لما يطلبونه منك. فالدستور، من دون توافق سياسي مضمون مسبقاً، يعطيهم الحق في فرض الحكومة التي يريدونها عليك. وهكذا تجر نفسك، ومعك البلاد، إلى مأزق كبير في بداية مسيرتك لممارسة صلاحياتك كرئيس جمهورية، فإما أن تقبل شروطهم وتصبح بذلك شريكاً في وضع البلاد على حافة الانفجار المحتم، وإما أن تستخدم صلاحياتك في تعطيل لعبتهم، وفي كلا الحالتين قد ينتهي عهدك قبل أن يبدأ، وبذلك تضيف إلى مشاكل البلد معضلات جديدة قد تؤدي إلى مواجهة في الشارع نحاول تلافيها منذ انتهاء حرب يوليو مع إسرائيل في عام 2006.

ومضى الوزير صلوخ في نقل رسالة المعارضة إلى العماد المرشح فقال له: لا تصغِ إليهم، ولا إلى أي جهة خارجية. مرشحنا الوحيد للرئاسة هو أنت منذ البداية حتى النهاية. نحن، في المعارضة، لا نطلب أن تكون مع فريقنا ضد فريقهم، بل نعتبر حصول ذلك عاملاً يزيد البلد انقساماً. نريدك أن تبقى محايداً وأن تلعب دور المنقذ الحقيقي، وأن تمسك بالعصا من وسطها، لأنه من دون ذلك لن تتمكن من معالجة الأزمات الكبرى التي تنتظرنا على كل مفترق طريق.

وختم صلوخ رسالته الشفهية بقوله: وأنا في كلامي هذا لا أمثل وجهة نظر شخصية فحسب، بل موقف المعارضة بأكملها، وأنا مكلف بصورة رسمية بنقل هذه الصورة الواضحة إليك.

وكوزير خارجية محترف، يرفض صلوخ أن يتحدث عما قاله الفريق الآخر، لكنه ذكر لبعض المقربين إليه أن العماد سليمان قال جملة يتيمة وضعها في صيغة تساؤل: وهذا رأي الرئيس نبيه بري أيضاً؟!

لم يستغرب صلوخ طرح هذا التساؤل، لأن زعماء المعارضة سبق أن أعلنوا تبنيهم ترشيحه بصورة علنية أكثر من مرة، بينما بقي موقف الرئيس بري غير واضح، والذي حصل بعد هذه المقابلة أن بري سارع إلى الإعلان الصريح عن تبني ترشيح العماد سليمان وللمرة الأولى بواسطة مستشاره السياسي النائب علي حسن خليل.

هل ساعدت رسالة صلوخ في إدخال الطمأنينة إلى قلب العماد سليمان؟ رد على هذا السؤال أحد كبار ضباط قيادة الجيش من المجموعة المحيطة بالعماد المرشح: إلى حد ما... لكنها لم تعطل حالة الفتور التي نشأت بين الطرفين أخيراً، غير أن العماد سليمان يدرك تماماً أنه ليس في مصلحته، ولا مصلحة البلد، تحويل هذا الفتور إلى خلاف مهما كانت الظروف.

السؤال الثاني: هل يبقى العماد مرشحاً رئاسياً؟

بداية ونهاية، فإن العماد سليمان لعب دوراً متوازناً وكان بمنزلة ميزان وطني دقيق وحساس، منذ تجديد الولاية ثلاث سنوات لسلفه العماد إميل لحود. وخلال فترة الحرب مع إسرائيل في 2006، تمسك سليمان، بل تشدد في القتال إلى جانب المقاومة، مما أزعج عدداً من المراهنين السياسيين على إمكانية الخلاص من المقاومة الإسلامية وسلاحها سواء في الداخل أو في المجالين الإقليمي والدولي. وخلال هذه الفترة كان سليمان واضحاً في إظهار رفضه التام للقيام بأي عمل سلبي يؤثر بالنتيجة في تماسك الجيش ويعرضه للانفراط، كما حدث إبان الحرب الأهلية في العام 1975. ولعل موقف سليمان هذا نابع من حرصه الشديد على وحدة الجيش أكثر من أي شيء آخر، ثم جاءت معركة نهر البارد، بسخونتها التي بلغت درجات الغليان، وما تبع ذلك من أحداث دموية، كامتحان آخر لقدرته في المحافظة على التوازن السياسي من جهة، وعلى إبقاء الجيش خارج إطار التسييس، ونجح العماد سليمان في هذا الامتحان الصعب ونال درجة «ممتاز» في الأوساط الشعبية على اختلافها. غير أن كل هذا لم يمنعه من الاعتراف بالحقائق الموجودة على الأرض، وأولى هذه الحقائق أن رصيده الأول والأخير هو الجيش والجيش وحده... لا قاعدة سياسية ولا قاعدة شعبية تؤهله إلى أن يبارز عمالقة السياسة اللبنانية وحيتانها. وعندما فوتح من قبل بعض الموالين من الدرجة الثانية وسئل: إذا لم يتمّ التوافق الذي قد يصل إلى حد الإجماع على انتخابك، فهل تقبل بانتخابك بالأكثرية «أي النصف زائد واحد»؟ قال أحد كبار الضباط إن العماد سليمان رسم على وجهه ابتسامة صفراء ثم قال لمحدثه وهو ينهي المقابلة: العبوا غيرها.

ثم عاد العماد سليمان إلى كبار ضباطه حيث وضعوا جميعاً المبادئ الأساسية لقبوله الترشيح وبالتالي انتخابه لمنصب الرئاسة الأولى، وتشمل هذه المبادئ السيناريو الأسوأ في حال حدوث اضطرابات أمنية. بالنسبة لموضوع الترشيح والانتخاب اتفق سليمان مع كبار القادة العسكريين على رفض الموضوع برمته إذا لم يتحقق الإجماع أو شبه الإجماع. فقيادة الجيش لن تغامر بوحدتها مهما كانت الإغراءات، ولن تقع في الأفخاخ السياسية من أي جهة أتت. أيضاً تقرر إبعاد الجيش عن تلقي الأوامر، في حال حدوث الاضطرابات الأمنية، من الحكومة أو من غيرها، ربما يجري الاستئناس برأي الحكومة لكن القرار النهائي هو لقيادة الجيش وعلى رأسه العماد سليمان، لذلك رفع سليمان شعاراً، في أكثر من خطاب ألقاه أمام الضباط والجنود في مناسبات مختلفة، «إن الجيش يقوم بدور وطني في الحفاظ على أمن المواطن والوطن على الحدود وفي الداخل». وبذلك وضع حدوداً حصينة بينه وبين القرارات السياسية التي لا تنسجم مع المبادئ التي أقرتها القيادة العسكرية في الابتعاد عن السياسة والسياسيين وربما الناس أجمعين.

ما يقلق قيادة «اليرزة» العسكرية هو موضوع الأمن وبالتالي من يمسك به في حال استمرار الفراغ الرئاسي وحدوث اضطرابات. فإذا كان الجيش قد قرر ونفذ عملية ابتعاده عن السياسة فإن قوى الأمن الداخلي «شرطة ودركاً وأمناً عاماً» غارقة حتى الأذنين ليس في السياسة فحسب، بل في الانحياز إلى فريق دون آخر. والقوانين تفصل بينها وبين القيادة العسكرية. وهذا «الجيش البديل» – أي قوى الأمن – يمكن أن يشكل قنابل موقوتة في الإمساك بالقرار الأمني، خصوصاً أن ميزانيته المالية تكاد تفوق ميزانية الجيش. ولم تعثر قيادة «اليرزة» إلى الآن على الصيغة التي تطمئن إليها سوى تشكيل قيادة مشتركة مع قوى الأمن الداخلي لا تعطي الجيش السلطة في السيطرة الكاملة. وهناك من يقول إن قيادة «اليرزة» في حال شعورها باقتراب انفلات الأمن قررت أن تتجاوز القوانين وتستكمل ما يتطلبه أمن البلاد في توحيد السلطة الأمنية، ولو أدى ذلك إلى وقوع ما قد يسميه بعض السياسيين بـ«انقلاب على القوانين».

السؤال الثالث: كيف ستتصرف المعارضة، وما خططها المستقبلية؟

بات واضحاً أن المعارضة قد هضمت الفراغ الرئاسي، كما هضمت أيضاً تسلـّم حكومة السنيورة لصلاحيات رئاسة الجمهورية، وهي ستتعايش مع هذا الوضع، لكنها في الوقت ذاته ستسعى إلى تحريض الشارع واستخدامه لإسقاط الحكومة أو لدفعها إلى الاستقالة، أو لإضعافها، مع الحرص الشديد على ألا يتمّ ذلك على حساب الأمن أو التلاعب به. والمعارضة تستعد لإبقاء حالة الفراغ ليس إلى شهر مارس المقبل كما يشاع، بل إلى نهاية ولاية مجلس النواب في عام 2009 إذا تطلب الأمر ذلك، غير أنها وضعت حدوداً لصبرها، فإذا أقدمت الموالاة على انتخاب رئيس بـ«النصف زائد واحد»، عندها تتغير قواعد اللعبة، ويصبح استخدام الشارع، أو الشوارع والزواريب، «حقاً مشروعاً» حتى لو جاء بأسلوب يتنافى مع الحرص على الأمن الجماعي.

* كاتب لبناني