Ad

الخضرة حياة الأرض، والماء يحول الجماد إلى حياة، والأرض إلى نبات، وقد كانت أعلام معظم الدول العربية الإسلامية خضراء رمزاً لاخضرار الأرض، ثم أصبح اللون الأخضر رمزاً للسلام.

إن تصوير القرآن للأرض الخضراء التي ينزل عليها الماء فتهتزّ وتربو وتنبت من كل زوج بهيج هو إيحاء للعرب بالتوجّه نحو الأرض لزراعتها وريّها، فصورة الأرض الخضراء في الذهن الإنساني مستمدة من صورتها عند الله، فالقرآن موجه إلى السلوك الإنساني وواقع على العمل في الأرض وبناء العمران، فالقرآن فيه كل شيء «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ»، «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»، ليس بمعنى الحلول ولكن بمعنى فيه كل التوجه والإرشاد والرؤية والمنظور، ومازلنا نستمد رؤانا للعالم من القدماء الذين عاشوا في عصر مضى وفي مرحلة تاريخية ولّت، ونحن نعيش في عصر آخر وفي مرحلة تاريخية جديدة، من الانتصار إلى الانكسار، ومن الوفرة إلى الندرة، أو ننقلها من المحدثين فلا تنجح خططنا التنموية، إذ تنقصها المشاركة الشعبية والدافع الداخلي من الثقافة الوطنية.

لذلك يقوم اليسار الإسلامي على تجربة أخرى، هي التوجه نحو الأرض، ليس للتحرير والعمران فقط بل أيضا للزراعة حتى نأكل ما ننتجه، ونحصد ما نزرعه لتحرير الإرادة الوطنية من المعونات الخارجية والتهديد بقطعها ومنع توريد القمح والغذاء، فالهند شبه القارة التي يقطنها فوق المليار نسمة تأكل ما تنتج، ولا تستورد قمحاً، ونحن ما يقرب من المليار والنصف من المسلمين يعم أراضينا القحط والجفاف من جانب، والغرق والفيضان من جانب آخر، فما صورة الأرض في القرآن؟

الأرض للإنبات وليست الأرض القاحلة الجافة، فيهرع إليها الناس «فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا»، والأرض تنبت بفعل إنزال الماء عليها كما يفعل المطر درسا للإنسان لحفر الآبار وإقامة السدود والبحث عن مصادر المياه «سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ». يختلط الماء بنبات الأرض فيتحول إلى عشب وأشجار «كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ»، فندرة المياه أسطورة تبرر اندلاع الحرب القادمة في فلسطين حول المياه التي سلبها المستوطنون لري حدائقهم، وفي نفس الوقت تسميم آبار الفلسطينيين حتى يموتوا جوعاً وعطشاً فيهجروا الأرض طوعاً أو كراهية.

يهبط الماء من السماء مطراً ويتفجّر من الأرض عيوناً «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ»، وتفجير الينابيع من الأرض دليل على النبوّة كما فعل موسى عندما ضرب الحجر بعصاه فانفجرت منه العيون «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا»، ليست الصحراء العربية قاحلة، ففيها عيون وآبار للمياه، وعيون أخرى وآبار للنفط، والماء للزراعة، والنفط للصناعة. إن الصحراء التي خرج منها الأنبياء يعبرون عن آفاقها اللانهائية باسم التوحيد لا يمكن أن تكون فقيرة والله غنيّ.

وقد نشأت العيون من مياه الأمطار المتراكمة فوق الأرض فتنفذ في مسامها وتختزن تحت ثراها حين الحاجة «وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ». يسلك الماء في ينابيع الأرض لحين الحاجة «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ»، العطش في السودان ومالي والصومال وأثيوبيا والمياه في الجوار يتحول إلى فيضانات في الهند وبنغلادش لسوء تخطيطٍ من البشر وعجزٍ من المسلمين على التعامل مع الطبيعة وتسخير قوانينها لمصلحة العمران.

الأرض هي الأرض الحية وليست الميتة، يعيش عليها الأحياء ولا يدفن فقط فيها الأموات «وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا»، لذلك يشار إلى أراضي المسلمين في أفريقيا وآسيا بأنها أراضي الجوع والعطش، وبلاد القحط والجفاف، وهي مملوءة بالمياه والزرع، وكانت هدف المستعمر الغربي باستمرار. مياه وزرع فوق الأرض، ومعادن وثروات تحت الأرض، بل لقد امتدّ العطش إلى دلتا النيل لعدم العناية بالشعب بينما تتوافر المياه في القرى السياحية في الساحل الشمالي وعلى سواحل البحر الأحمر للأغنياء والميسورين، والطريق قادم إلى خصخصة المياه وبيعها للقادرين لأن الماء أصبح سلعة وليس خدمة، تجارة وليس حقاً، ومن الكماليات وليس من الضروريات، وقد حث الشرع على أن تكون المياه عامة للناس ولابن السبيل، والحديث مشهور «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار». وكان «السبيل» من جوانب العمارة الإسلامية حتى «حنفيات» البلدية العامة في الأحياء التي لم تدخلها المياه بعد إلى عهد قريب.

الماء له فعل في الصخر، وقوته في الأرض القاحلة، فالحياة أقوى من الجماد، والنماء أقوى من الموت «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا». مصادره مياه الأمطار والعيون والآبار، ومهمة الإنسان تخزين مياه الأمطار للانتفاع بها على مدى العام، وتفجير العيون وحفر الآبار للاستفادة من المياه المختزنة في باطن الأرض... الجنة فيها أنهار وليست صحراء قاحلة، وفجر الله مياه زمزم حتى لا يهلك أولاد إبراهيم من العطش، وأصبحت مزاراً وحجاً للمسلمين، وهي المياه المباركة النظيفة وليست المياه الآسنة من البرك الراكدة التي تحمل الأمراض للشاربين منها، اختياراً بين الحياة مرضاً والهلاك عطشاً، ولا حاجة لجرّ جبال الجليد من الشمال إلى الجنوب، حيث يضيع نصفها من الذوبان في مياه البحار أو تحلية مياه البحار والمياه الطبيعية موفورة فوق الأرض وتحتها، وهي ليست صالحة للشرب ولا للزراعة.

ينزل الماء على الأرض فتخضر «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» وليست هشيماً أصفر تذروه الرياح، ويستعمل القرآن جماليات الألوان، الأصفر رمز للقحط والعطش والجفاف من أجل الحث على الزراعة، والأحمر رمز للنار والحديد من أجل الدفع نحو الصناعة، والأسود رمز للعتمة واليأس والذنب، والأبيض رمز للصفاء والنقاء والأمل.

الخضرة حياة الأرض، والماء يحول الجماد إلى حياة، والأرض إلى نبات «وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا»، وقد كانت أعلام معظم الدول العربية الإسلامية خضراء رمزاً لاخضرار الأرض، ثم أصبح اللون الأخضر رمزاً للسلام في المسيرة الخضراء أو الاستقلال الأيديولوجي كما هي الحال في «الكتاب الأخضر». بل أصبح رمزاً إلى الطرق الصوفية، العمامة الخضراء، والبيارق الخضراء، والأردية الخضراء رمزاً للنماء وثراء الروح وإن كانوا من الزهّاد والفقراء.

الأرض ثابتة هامدة ساكنة، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت، وتحركت وحيِيَت «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ»، فالحياة نماء وحركة، طاقة وتطور حتى لا يُتهم المسلمون بالثبات والجمود والخمول والتخلف عن مسار التطور، وإذا كان الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الإسلام والارتقاء في المقامات والأحوال فلدى الصوفية دليلان على التطور والنماء في الفكر: حركة الأرض عن طريق الماء، والخضرة التي هي قرين للفكر.

* كاتب مصري