الكتاب... ذلك الساحر

نشر في 29-02-2008
آخر تحديث 29-02-2008 | 00:00
 محمد سليمان

الكتاب الذي قاد أمماً عديدة إلى النهوض والتقدم يتراجع في بلادنا وينحسر تأثيره خصوصاً في الأعوام الأخيرة بعد ازدهار عصر الصورة وشيوع ثقافة التسلية والترفيه وانحسار القراءة، وقد أدى هذا التراجع الدائم إلى ابتعاد بعض دور النشر عن المغامرة بنشر الجاد والجيد والبحث فقط عن المثير والفضائحي.

قبل أربعين سنة كانت الدورة الأولى لمعرض القاهرة الدولي للكتاب كنت طالباً في ذلك الوقت أعيش مع أبناء جيلي والأجيال الأكبر تحت راية الكلمة وفي عصر الكتابة. وفي الستينيات كان البث التلفزيوني محدوداً وفي بداياته وأجهزة التلفزيون نادرة وقليلة الانتشار، وكان امتلاك أحدها يعد نوعاً من الرفاهية ودليلاً ساطعاً على الثراء. في المقابل كانت معظم القرى لا تعرف التلفزيون ولا يهمها الحديث عنه خاصة، ومعظمها كان في ذلك الوقت غارقا في الظلام ولا يحلم سوى بوصول حصته من كهرباء السد العالي لإنارة الشوارع والأزقة وإبعاد العفاريت واللصوص والثعالب.

لم يكن لدينا إذن سوى الكتاب لكي نتعلم ونتسلى ونعرف ما يدور حولنا وما يحدث هناك في العالم البعيد. كان الكتاب ملاذاً و«طاقة نور» كما يقولون في القرى وخير جليس كما يقول المتنبي، وبلا منافس يهز عرشه أو يعمل على إقصائه، كما كان أيضاً موضع تقدير الآباء والأجداد الأميين غالباً والذين كانوا يفتشون جيوبهم ومناديلهم بحثاً عن قروش مختبئة هنا أو هناك تساعدنا على اقتنائه.

لا أعرف متى بدأت علاقتي بالكتاب ذلك الساحر لكنني مازلت أذكر ذلك العم العملاق الذي يقرأ ويبكي ويهدد كل طفل يحاول الاقتراب من كتبه. كان قد أرسل إلى القاهرة للدراسة في الأزهر وللحصول على لقب عالم أو شيخ تزهو به العائلة لكنه عاد بعد أعوام وحده من دون لقب حاملاً بالإضافة إلى الفشل الكثير من الكتب وشهادة بمهارته كلاعب كرة سلة حصل عليها بسبب طوله الفارع الذي كان يمكنه من وضع الكرة في سلتها تماماً كما يضع كيس النقود في جيبه. وبسبب فشله في الحصول على أي لقب صار هذا العم العملاق مزارعاً كوالدي وأعمامي الآخرين لكنه ظل مختلفاً ومتميزاً عن الجميع فقد كان يجلس أو يتمدد تحت شجرة ما متشبثا بكتبه ومنهمكاً في القراءة ناسياً حقله وتاركاً حيواناته البائسة تتلوى من الجوع ومحتملاً سخرية وشتائم الأقارب والجيران الذين كانوا بعد إفراغ غضبهم وثورتهم عليه يقومون في النهاية بإطعام حيواناته ورعاية حقله. وقد كنت أرجع بكاءه في البداية إلى ورعه وقراءاته الدينية حتى اكتشفت بعد سنوات دواوين الشعر وكتب التراث والسير الشعبية والروايات وكان بكاؤه يعلو ويعلو وهو يقرأ الروايات التي عرّبها مصطفى لطفي المنفلوطي.

هكذا بدأت علاقتي بالكتاب باعتباره بوابة للسحر والجمال والغرابة والسفر إلى عوالم الآخرين. ورسخت المدرسة بعد ذلك هذه المكانة بمكتبتها وحصص القراءة الحرة وبمعلمين كانوا يوجهون ويشجعون على القراءة، وقد ظل الكتاب لسنوات طويلة متاحاً بأسعار تناسب الشريحة العظمى من القراء ورواد المعرض أي تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات لكن ارتفاع أسعار الكتب أثر كثيراً في هذه الشريحة محدودة الدخل وأخرج نسبة كبيرة منها من دوائر المشترين والمهتمين، والمتابع لنشاطات المعرض في الأعوام الأخيرة سيرصد رواج سوق الكتب القديمة «سور الأزبكية» وإصدارات مكتبة الأسرة وهيئة الكتاب ودار الهلال وقصور الثقافة والدور القومية الأخرى بسبب سلاسلها وكتبها المدعومة التي تناسب دخول أغلبية القراء، لكن معظم هذه الدور وبعض الدور الأهلية تعاني اليوم التراجع والتعثر والعجز عن المنافسة، وتقديم الجديد والجيد بسبب ارتفاع أسعار الورق وتكاليف الطباعة وضعف الإقبال على القراءة. فدار الهلال تمر بأسوأ مراحل عمرها كما قال رئيس تحريرها وهو يبرر عدم التزام الدار بإصدار روايات الهلال في موعدها. والتعثر نفسه تعانيه الدور القومية الآخرى ودور القطاع الخاص التي توقف بعضها عن مزاولة نشاطه بسبب الركود والخسائر.

الكتاب الذي قاد أمماً عديدة إلى النهوض والتقدم يتراجع في بلادنا وينحسر تأثيره خصوصاً في الأعوام الأخيرة بعد ازدهار عصر الصورة وشيوع ثقافة التسلية والترفيه وانحسار القراءة، وقد أدى هذا التراجع الدائم إلى ابتعاد بعض دور النشر عن المغامرة بنشر الجاد والجيد والبحث فقط عن المثير والفضائحي والترحيب من أجل استعادة القارئ بالكتابة التي تتخذ من الجسد والجنس أفقاً لها.

* كاتب وشاعر مصري

back to top