صناعة الموت 1
الحقيقة المرة التي لا يتقبلها الكثيرون أن حقوق الإنسان جزء لا يتجزأ في قضية مواجهة الإرهاب. ولا يحق لكائن من كان أن يحرم أي أحد منها مهما كانت الظروف ومهما كانت درجة الاختلاف أو الخلاف. ومتى ما بدأنا بتجزيء الحقوق حسب أهوائنا أو حسب الظروف ضاعت حقوق الكل وفقدنا جزءاً من إنسانيتنا.
عرضت قناة «العربية» يوم الجمعة أول فبراير 2007 برنامجها الوثائقي «صناعة الموت» الذي تمحور حول مواجهات الإرهاب في الكويت وتحديداً حول أحداث يناير 2005 في محاصرة وقبض أفراد من خلية «أسود الجزيرة». والحلقة بشكل عام ثرية على الصُعد السياسية والاجتماعية والقانونية كافة. وقد أبدع مراسل «العربية» في الكويت الزميل سعد العجمي في بحث تلك الجوانب بدبلوماسية وحياد واضحين.الفكرتان الرئيسيتان اللتان تصرخ بهما الحلقة هما ضياع مفهومي حقوق الإنسان وآداب المهنة في المجتمع الكويتي ولدى مَن يعتبرون طليعته للأسف. وقبل تفصيل تلك الجوانب لا بد من التأكيد أن ذلك التالي لا يشكل بأي صورة دفاعا أو تبريراً للإرهاب بأي صورة من صوره. ولكنه بالتأكيد محاولة لكشف مبررات وخلفيات الإرهاب الذي يتصرف الكل على أنه ظاهرة «دخيلة» من دون أن يتحمل أحد مسؤوليتها.لنبدأ بحقوق الإنسان: من مقاطع الفيديو المشوشة التي ظهرت في الحلقة يبدو بوضوح أفراد الخلية المحاصرة على سطح المبنى ويرفعون أيديهم إشارة للاستسلام ومع ذلك تستمر قوات الأمن بإطلاق النار في جو من الفوضى والهلع الواضحين من رسائل اللاسلكي المتبادلة بينهم. وبعد ذلك يتم إخراج الناجين العزل إلى الشارع ويستمر ضربهم أمام عدسة الكاميرا من دون سبب واضح. فهم مكبلون ومستسلمون ولا يبدون أي مقاومة. ويبدو أن الضرب كان مجرد تنفيس لحالة الهلع والغضب التي أصابت قوات الأمن من فقدان زملائهم في مواجهات إطلاق النار. ويظهر في الفيديو عامر الخليف الذي يعتبر من قياديي الخلية بكامل عافيته ثم يتوفى في سجن أمن الدولة بعد أسبوعين من اعتقاله. والمضحك المبكي أن تقرير الطب الشرعي التابع لوزارة الداخلية يدعي وفاة طبيعية كما يؤكد خلو بقية المتهمين من أي آثار للتعذيب. في حين أكدت لجنة طبية مستقلة من أساتذة الطب في جامعة الكويت وجود آثار واضحة للتعذيب، كما أشار أحد محامي الدفاع محمد منور. هذا بالإضافة إلى المضايقات التي تعرضت لها هيئة الدفاع ومنع المعتقلين من الزيارات أو الاتصال بذويهم أو الحصول على الرعاية الطبية.هذه انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان. ولكن ما أهمية ذلك في قضية إرهابيين قتلوا أبرياء وخططوا لقتل المزيد؟ ألا يستحقون ما أصابهم؟ أليس في ذلك عبرة لمن يعتبر؟ أليس أفراد الأمن بشراً من حقهم التنفيس عن غضبهم واستيائهم؟ الأهم ألم يؤد التعذيب إلى اعترافات وبالتالي أحكام الإعدام على هؤلاء المجرمين؟ الحقيقة المرة التي لا يتقبلها الكثيرون أن حقوق الإنسان جزء لا يتجزأ. ولا يحق لكائن من كان أن يحرم أي أحد منها مهما كانت الظروف ومهما كانت درجة الاختلاف أو الخلاف. ومتى ما بدأنا بتجزيء الحقوق حسب أهوائنا أو حسب الظروف ضاعت حقوق الكل وفقدنا جزءاً من إنسانيتنا. هذا من ناحية مبدئية، ومن ناحية عملية، فإن العنف يخلق المزيد من العنف. فالعنف بمحاربة الإرهاب الذي تقوده الولايات المتحدة خلق المزيد من الإرهاب الأسوأ والأوسع انتشاراً. وعنف التعامل مع هذه الجماعة الصغيرة قد خلق بالتأكيد تعاطفاً أكبر مع أفرادها خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار البيئات البسيطة التي ترعرعوا فيها.الأهم- وهو السبب الرئيسي وراء ميثاق حقوق الإنسان- أنه رغم العنف والتعذيب فمن أصل 37 متهماً تم الحكم بإعدام 6 (رغم طلب المدعي العام بإعدام 21) وبراءة 7 منهم، في حين لم تتجاوز أحكام سجن بعضهم السنة. وتغيرت الصورة تماماً بعد الاستئناف والتمييز. أي أن الدراسة المتأنية والبعيدة عن العواطف والمواقف السياسية والشخصية قد برأت بعضهم وخفف أحكام الكثيرين ممن كان مصيرهم مقاربا لزميلهم عامر الخليف. كما قد تكون انتهاكات القانون وحقوق الإنسان سبباً في تبرئة مجرمين حقيقيين يخططون الآن للمزيد من الضرر. الإرهاب سرطان خطير ينخر في مجتمعنا، وكي نحاربه لا بد من الحكمة والعدل والذكاء. فالعنف والظلم والتخلف والكبت هي التي خلقت هذه الظاهرة وشجعت معتنقيها. والاستمرار فيها هو الوقود الذي يثري تلك العقليات القاصرة والمضللة. أما آن لهذه الحلقة القاتلة أن تنقطع؟