قد لا يُفهم ما جرى في المؤتمر الأخير لحلف الناتو، وفي لقاء «قمة الوداع» بين فلاديمير بوتين وجورج بوش، إلا بالاستناد إلى تلك الخلفية، تتحكم في منطق العلاقات بين دولتين كبريين، سلّمتا بالاختلاف في شأن أوروبا وتسعيان إلى التعاون في ما عداها من أصقاع الأرض.آثرت الولايات المتحدة، في علاقتها بالاتحاد السوفييتي لحظة أفوله ثم مع روسيا الاتحادية التي قامت له خلفا وامتدادا، أن تتعامل مع هزيمة ناجزةٍ وكأنها هزيمة نسبية، ملتبسة، مع أن نهاية المواجهة التي استمرت بين القوتين عقودا، تحت مسمّى الحرب الباردة، تخللتها أزمات وضعت البشرية مرارا على مشارف الكارثة النووية، آلت بجلاء ووضوح إلى تعيين غالب ومغلوب: إمبراطورية انكفأت وانهارت، انفضت من حولها لواحقها ومستعمراتها، وأخرى انتصرت فسادت العالم واستوت قوة عظمى وحيدة، ففرضت نموذجها لا سطوتها المادية فحسب.
ومع ذلك، تصرف المنتصر بـ«أريحية» لم تكن معهودة في حالات كتلك، لم يفرض على المنتصر استسلاما يوثقه نصّ و«تمشده» رمزيا طقوس تُقام، على نحو ما حصل في حق ألمانيا عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية على سبيل المثال، ولم يُتخذ أي إجراء انتقامي، فرض تعويضات أو ما ماثل ذلك، ولا سُجّل إقبال على تجريم الشيوعية، خصوصا حقبتها الستالينية، على نحو ما حصل مع النازية، بل بدا الطرف المنتصر رفيقا بالطرف المهزوم، بل نشأ بينهما ما يشبه التواطؤ، لا يخلو من ود في بعض الحالات والأطوار، لا سيما أيام الثنائي جورج بوش الأب-ميخائيل غورباتشيف خصوصا أيام الثنائي بوريس يلتسن-بيل كلينتون، اللذين تقاربا حتى تشبّها بالحليفين.
ذلك السلوك، وهو بطبيعة الحال لا علاقة له بمنطق «ارحموا عزيز قوم ذلّ»، ربما عاد إلى كون الحرب الباردة لم تكن نزاعا تقليديا، وذلك أمر من البداهة بحيث أن المتفوّه به لا يكاد يضيف شيئا أو يقدم تفسيرا.
ذلك أنه إذا كانت الولايات المتحدة قد اختارت أن تواكب الانهيار السوفييتي وأن ترافقه، بل أن تديره، بالتعاون مع القيادة الروسية أحيانا ولم تبخل عليها بالمساعدات المالية والاستثمارات، في عهد يلتسن خصوصا، فذلك لأنها اعتبرت أن مصلحتها في ذلك أكبر من مصلحتها في الإجهاز على الإمبراطورية الآفلة. وذلك وفق مقاربة، دوافعها استراتيجية في المقام الأول، قامت في ما يبدو على المبدأ التالي: إنهاء دور روسيا (في صيغته السوفييتية أو أي صيغة إمبراطورية أخرى قد يلبس لبوسها) في القارة الأوروبية والإبقاء على ذلك الدور، ودعمه إن دعت الحاجة، على الصعيد الآسيوي». فروسيا، كما هو معلوم، قوة آسيوية بقدر ما هي أوروبية، فرادة لا تكاد تضاهيها فيها سوى تركيا.
وهكذا، اتخذ الانهيار السوفييتي أساسا شكل الخروج من أوروبا، الوسطى والشرقية، تلك التي تحررت من ربقة موسكو وآلت جميعها إلى الغرب الأوروبي، عبر الاتحاد الحامل نفس تلك الصفة، والأميركي عبر حلف شمالي الأطلسي. على ذلك الصعيد الأوروبي، لم تبد الولايات المتحدة كبير رفق بالخصم الروسي السابق، غير متورعة في ذلك عن استخدام القوة العسكرية، وإن على نحو غير مباشر، ضد صربيا، تلك التي كانت موسكو تحلم بالحفاظ على موقع قدم، من تأثير ومن نفوذ، فيها. لقد كُنس الوجود الروسي كنسا لا هوادة فيه من القارة القديمة، وانصرمت بذلك، ربما لأول مرة في التاريخ منذ أن قامت روسيا إمبراطورية (ما يكاد يستغرق كل تاريخها)، كل آصرة، أقله سياسيا واستراتيجيا، تربط موطن بوشكين بأوروبا، وذلك تحوّل على الصعيد الجغرافي-السياسي، وربما الثقافي لاحقا، بالغ الخطورة بالنسبة إلى بلد تأسست هويته على وجه «آسيوي»، يراه الغرب في استبداده المقيم وآخر أوروبي، يجعله ينتسب، من خلال كبار كتّابه وموسيقييه مثلا إلى ثقافة «ميتل أوروبا» (فضاء أوروبا الوسطى).
غير أن التمييز ذاك لا يعود إلى مجرد مؤامرة غربية ترمي إلى «أسيَنة» روسيا، بل إن الدافع إليه اعتبارات أكثر براغماتية (على ما هو ديدن الأنكلوساكسون) وأكثر إجرائية، هي الإبقاء على روسيا قوة قادرة على موازنة الصين والهند وسواهما من القوى الصاعدة في تلك القارة التي أضحت بؤرة كل ما يقض مضجع العالم، سباقا على امتلاك السلاح النووي ونفطا وأصولية جهادية. ذلك ما يفسر لماذا توخت الولايات المتحدة تلك المقاربة الانتقائية في دحر روسيا ونفوذها، فتشددت معها في مواضع وتساهلت معها في مواضع أخرى، فلم تتحمس لاستقلال جمهوريات آسيا الوسطى، كما فعلت مع نظيراتها في الشرق الأوروبي، أو غضت الطرف عما ارتكبه ويرتكبه الجيش الروسي في الشيشان والذي لم ينله من الإدانة إلا ما كان يسيرا شفويا وغير رسمي، على خلاف ما كانت عليه الحال في يوغسلافيا السابقة.
حتى نهاية الإيديولوجيا الشيوعية قد لا تكون بالقطع والجزم اللذين نعتمدهما عادة في تناول ذلك الموضوع، ربما بتأثير من «مركزية ثقافية» رأت في نهاية الشيوعية في أوروبا نهاية لها في العالم. صحيح أنها انهارت مع انهيار النظام الذي كان رمزا تاريخيا لها وكان قوتها الضاربة، أي الاتحاد السوفييتي، وصحيح أن الإيديولوجيا الشيوعية قد فقدت زخمها، ولكن الظاهرة تلك تعني أوروبا في المقام الأول، إذا ما تذكرنا أن الإيديولوجيا تلك لا تزال تحكم بلدانا عدة خارج العالم الغربي، من الصين إلى فيتنام إلى كوبا، وأن قائدا مثل بوتين يكن حنينا صريحا لتلك الحقبة من تاريخ بلاده، مأخوذ بنَفسها الإمبراطوري، وبنظامها الشديد المركزية، ولا ينفكّ يثني على ستالين في تصريحات علنية. قد لا ينذر ذلك بعودة إلى الشيوعية كإيديولوجيا، ولكنه قد يعبر عن تبجيل لأساليبها كممارسة.
لذلك، قد لا يُفهم ما جرى في المؤتمر الأخير لحلف الناتو، وفي لقاء «قمة الوداع» بين فلاديمير بوتين وجورج بوش، إلا بالاستناد إلى تلك الخلفية، تتحكم في منطق العلاقات بين دولتين كبريين، سلّمتا بالاختلاف في شأن أوروبا وتسعيان إلى التعاون في ما عداها من أصقاع الأرض. وذلك ما يتعين أن يبقى ماثلا في أذهان من قد يتوهمون، في منطقتنا، عودة روسية تضارع ما كان عليه الحضور السوفيتتي.
* كاتب تونسي