Ad

عاش شوقي معظم حياته مُحاطاً بإطار من صنع يديه ومن صنع غيره، واستطاع أن يكتب العديد من القصائد الجيدة، وأن يجبر أعظم النقاد على الاعتراف بمكانته، وأن يجبرنا أيضاً على الاشتباك الدائم معه والاحتفال بذكرى رحيله.

المبدعون الكبار كالأنهار، لا نستطيع الاستغناء عنهم أو حذفهم من الذاكرة أو التراث، مهما اختلفنا معهم.

هل نستطيع مثلاً حذف المتنبي وشعره أو الجاحظ ونثره من التراث العربي، من دون أن يختل التراث أو يتأثر؟ وأظننا أيضاً لا نستطيع حذف شوقي وإبداعه من تراثنا وذاكرتنا، لأنه كما قال عنه طه حسين الذي كان واحدا ً من خصومه «شوقي هو أعظم شعراء العربية بعد المتنبي».

الإبداع الجيد قادر على الصمود والدفاع عن نفسه واختراق الزمن وإجبار الأعداء والخصوم على الاعتراف بحضوره وجودته، وشوقي بعد مرور خمس وسبعين سنة على رحيله، لم يزل حاضراً ربما أكثر من معظم شعرائنا الكبار المعاصرين.

وأظننا لم ننسَ هجوم حافظ إبراهيم على شوقي وشعره عام 1906، ثم تراجعه بعد ذلك واعترافه بتفوق شوقي عندما قرأ قصيدته في رثاء مكتشف مقبرة توت عنخ آمون:

أفضى إلى ختم الزمان ففضه

وحبا إلى التاريخ في محرابه

وطوى القرون القهقرى حتى أتى

فرعون بين طعامه وشرابه

وكان تعليق حافظ «قتلني شوقي بهذين البيتين».

وكما تراجع حافظ وبايع شوقي عام 1927 أميراً للشعراء، تراجع العقاد والمازني بعد وفاة شوقي، لكن هذا التراجع لا ينفي عن شوقي تغييبه لذاته في قصائده ولتجربته وخبراته الشخصية، وانشغاله بالمديح وقصائد المناسبات، بعكس المتنبي الذي اتخذ من ذاته محوراً لأغلب قصائده، وكان بمهارة يتسلل من الحديث عن فضائل الممدوح إلى الحديث عن ذاته والزهو بها. وهذه الذاتية منحت شعر المتنبي الكثير من الدفء والحيوية؛ وغيابها في شعر شوقي جعل منه صانعاً ماهراً وناظماً قديراً يكتب غالباً ما يريده الآخرون منه أو ينتظرونه.

ويفسر د. محمد حسين هيكل هذا الأمر في المقدمة التي كتبها للطبعة الأولى من «الشوقيات» قائلاً «هذا الشاب لم يكن في ملك نفسه، فقد بعث به الخديوي توفيق باشا ليتم علومه في أوروبا، وكان من قبل ذلك ككل شاعر شاب يرسل القول كما تلهمه إياه نفسه، فلما عاد إلى مصر اتصل بالأمير عباس حلمي باشا وصار كلمته».

لكن شوقي يحدثنا أيضاً في المقدمة التي كتبها لشوقياته عن علاقته الأقدم بالخديوي توفيق، الذي أرسله إلى أوروبا ومنعه من العودة إلى مصر في نهاية العام الدراسي، وأمره بزيارة الدول الأوروبية الأخرى للاطلاع على مظاهر تقدمها.

كما يحدثنا عن روايته «علي بك الكبير» التي كتبها في باريس وأرسلها إلى مصر للعرض على الخديوي، وعن الرد الذي جاء فيه «أما روايتك فقد تفكّه جناب الخديوى بقراءتها، وهو يدعو لك بالمزيد من النجاح، ويجب ألا تشغلك دروس الحقوق التي يمكنك أن تحصلها وأنت في بيتك بمصر عن التمتع بمعالم المدنية القائمة أمامك، وأن تأتينا من مدينة النور باريز بقبس تستضيء به الآداب العربية».

هذا الرد كان بمنزلة تكليف من الخديوي لشوقي بالبحث عن الجديد في مجال الإبداع ونقله إلى الأدب العربي.

وأدى ذلك إلى اهتمام شوقي وانشغاله بفنون لم تكن معروفة للعرب في هذا الوقت؛ كالمسرح، والرواية، والقصص الخرافية، وشعر الأطفال، فكتب بالإضافة إلى الشعر ثماني مسرحيات شعرية ونثرية وست روايات، وترجم «بحيرة لامارتين»، ثم انشغل بكتابة الحكايات الشعرية للأطفال مقلداً لافونتين قائلاً «وجربت خاطري في نظم الحكايات على أسلوب لافونتين الشهير، وكنت إذا وضعت أسطورتين أو ثلاثا أجتمع بأحداث المصريين وأقرأ عليهم شيئاً منها فيفهمونه لأول وهلة ويأنسون به ويضحكون من أكثره، وأنا استبشر لذلك وأتمنى لو وفقني الله لأجعل للأطفال المصريين مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المتمدنة».

وارتباط شوقي بالسلطة ومشاريعها كان أمراً طبيعياً بسبب ضعف جذوره المصرية ونشأته في قصور الأسرة الحاكمة الوافدة إلى مصر، مثل أسرته، فقد وفد جده لأبيه في عهد محمد علي. وشوقي في مقدمته يحدثنا عن نفسه قائلاً «أنا عربي - كردي - يوناني - جركسي بجدتي لأبي أصول أربعة مجتمعة في فرع واحد تكفله مصر، كما كفلت أبويه من قبل»... وأظن الهجوم عليه كان في جانب منه بسبب ارستقراطيته وعلاقته بالسلطة وبُعده عن معاناة زملائه الشعراء والكتاب في ذلك الوقت. وأظن أيضاً أن شهرته المبكرة وحذره الدائم دفعاه إلى حذف معظم قصائده الذاتية، خصوصاً في مراحل التمرد والتوهج الأولى، وهو نفسه يحدثنا عن ذلك قائلاً «أسقطت الكثير من قولي في زمن الصبا الذي لا يؤمن فيه على المرء الغرور، ولا يسلك الفتى فيه سبيلاً إلا وهو مُضَلل عثور، وقد خشيت أن يقع مثل ذلك في أيدى الناشئة فأُسأل عن سوء وَقْعِه ويكون إثمه أكبر من نفعه».

هكذا عاش شوقي معظم حياته محاطاً بإطار من صنع يديه ومن صنع غيره، لكنه استطاع أن يكتب العديد من القصائد الجيدة وأن يجبر الزمن أعظم النقاد على الاعتراف بمكانته، وأن يجبرنا أيضاً على الاشتباك الدائم معه والاحتفال بذكرى رحيله.

* شاعر وكاتب مصري