Ad

لا تكون المعارضة سياسية إلا إذا كان النظام الحاكم سياسياً. والحال أن نظامنا ثقافي (وإكراهي)، خلاصي (وعنفي). فما كان له أن يستطيع أن يجرد المجتمع المحكوم من السياسة من دون أن يتجرد هو منها كذلك.

لم يعد اعتقال مثقفين ناشطين في المجال العام أمراً خارج نطاق المعتاد في سورية. وليس ميشيل كيلو ومحمود عيسى وأكرم البني وعلي العبدالله أول مثقفين سوريين يعتقلون في بلدهم، ولو لأن الأربعة يعتقلون للمرة الثانية (ميشيل ومحمود) أو الثالثة (أكرم) أو الرابعة (علي).

الواقع أن اعتقال المثقفين مرتبط في سورية بوجود نظام رسالي أو «ثقافي»، يمارس السياسة بمنطق الهداية والخلاص وليس بمنطق التفاوض الاجتماعي، ويصادر على وحدة لا فجوات فيها للمجتمع المحكوم، ويحتكر وسائل تشكيل الوعي والمواقف العامة، ويعمل باجتهاد على اجتثاث أي اعتراض عليه ولو بالعنف المطلق، الملازم لكل نظام خلاصي. فإذ هو نظام «ثقافي»، فإن الاعتراض عليه هو اعتراض ضد «الثقافة» و»الحقيقة» والخلاص الوطني. وهو لذلك أدخل إلى باب الخيانة والمروق منه إلى باب الخلاف المشروع في الرؤى والمواقف. العنف تاليا هو الحل الحلال.

النظام هذا يقمع المثقفين لأنه هو ذاته «ثقافة». لكن لأنه «ثقافة»، فإن من يعترض عليه هم المثقفون أكثر من غيرهم. فهم إما أقل تقبلا للأساطير الخلاصية التي يقوم عليها نظام كهذا، أو أن لديهم أساطيرهم الخلاصية الخاصة. لكن الأهم أن بنية أنظمة كهذه تلغي الصفة العمومية للطبقات الاجتماعية والأحزاب السياسية، وتفرض نظاما «كوربوراتيا» شبه طائفي على المجتمعات المحكومة، فتقوض من الأساس إمكانية نشوء حركات اجتماعية كما شهد المثال الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية. ويقتصر أمر الاعتراض في مثل هذا الشرط على حركات خلاصية أخرى منفصلة اجتماعيا إلى هذا الحد أو ذاك، أو على حركات مثقفين رساليين أو منشقين. والحال تعرض حركة المعارضة السورية الوجهين معا. وقد كان يغلب الوجه الأول، الخلاصي، على نشاطها في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، بينما برز الوجه الانشقاقي والرسالي في السنوات المنقضية من هذا القرن. بينما كانت تسعينيات القرن العشرين سنوات تصحر سياسي تام في البلد.

من هذا الباب يمكن وصف جميع المعتقلين السياسيين بأنهم مثقفون، بل معتقلون ثقافيون. هذا ينطبق على الدكتورة فداء الحوراني، الطبيبة والناشطة ورئيسة «المجلس الوطني لإعلان دمشق»، وعلى زملائها الآخرين الذين اعتقلوا في الموجة الأخيرة (بين 9 و16/12/2007)؛ ينطبق كذلك على رياض درار، الناشط الإسلامي المعتدل، وعلى أنور البني المحامي والناشط في مجال حقوق الإنسان، وعلى فائق المير الناشط في حزب الشعب الديموقراطي السوري، وبالطبع على الدكتور عارف دليلة الذي يمكث في زنزانة منفردة منذ نحو ست سنوات وأربعة أشهر.

ونفترض أن «ثقفنة» النشاط الاحتجاجي أو اتصافه بصفة انشقاقية سمة مميزة لنمط السلطة «الشمولية» (وإن تكن هجينة يمتزج فيها الشمولي بالأهلي). ولعل أصل السمة هذه أن نمط السلطة هذا ينزع السياسة من المجتمع المحكوم، وينصب حواجز عالية بين القوى الاجتماعية والتيارات الثقافية والفكرية. فتجنح الأخيرة لأن تعرف نفسها بأهدافها وأفكارها لا ببرامجها السياسية ودورها الاجتماعي، بينما تنكفئ القوى الاجتماعية على نفسها لتمسي جماعات مصالح أو مراتب دخل. وبالعكس، يبرز الطابع السياسي للنشاط الاحتجاجي حين تنخفض أو تتحطم الأسوار الفاصلة بين المصالح الاجتماعية والرؤى الفكرية. وإنما هنا يأخذ المعارض بالحلول محل المنشق، والسياسي محل المثقف.

فلا تكون المعارضة سياسية إلا إذا كان النظام الحاكم سياسياً. والحال إن نظامنا ثقافي (وإكراهي)، خلاصي (وعنفي). فما كان له أن يستطيع أن يجرد المجتمع المحكوم من السياسة دون أن يتجرد هو منها كذلك. ومن المتوقع، تاليا، أن تكون معارضته المحتملة ثقافية (وإلا فإرهابية). ومعلوم أن الشكلين الثقافي والإرهابي للمعارضة برزا في وقت واحد في سورية في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، حين كان يبرز ويتفاقم الطابع الشمولي (المهجن بالأهلي) والنازع للسياسة لممارسة السلطة. والواقع أن الصنف الثاني من المعتقلين السياسيين اليوم في سورية هم إسلاميون، يحملون مشروعهم الخلاصي الخاص، الرافض بدوره للسياسة والمتوسل للعنف، حيثما تيسر.

إذن يعتقل مثقفون في سورية لأنه يغلب على النشاط العام، المعارض والمستقل، بما في ذلك «الأحزاب السياسية»، طابع حركة مثقفين. هذه سمته البارزة التي تنبع من بنية النظام «الكوربوراتي». لكن هذه أيضا حدوده، المترتبة على عزلته عن الطبقات والشرائح الاجتماعية. ولا ريب أن التركيز الكبير من طرف الناشطين السوريين على قضية الديموقراطية والحريات ومناهضة الاستبداد يعكس وضعهم كمهمشين ومحاصرين سياسيا. ومن غير المتصور في تقديرنا أن تنجح حركة المعارضة السورية في صورتها الراهنة في تقديم بديل للنظام قبل أن يصاب هذا بالوهن وتتداعي آليات سلطته الإيديولوجية والإكراهية والاجتماعية.

هذا ما يستدل عليه من «طبائع عمران» الدولة الشمولية في عصرنا. فللوهن ذاك وللتداعي هذا مفعول تهديم الحواجز التي تفصل المصالح الاجتماعية عن التيارات الفكرية، ما يشرط قيام معارضة سياسية فاعلة. ولعل التهديم هذا بلغ طوراً متقدماً نسبياً في مصر التي شهدت احتجاجات اجتماعية في عام 2007 واحتجاجات «سياسية» عامي 2005 و2006، وأضحت فرص التقاء الاحتجاجين أكبر مما مضى. في سورية لا يزال من المبكر توقع مثل هذا اللقاء، لكنها سائرة على درب سبقتها إليه مصر، وإن اختلفت الأقنعة الإيديولوجية.

على أية حال، حين تؤذن الشروط بتغير النظام فإنها تحمل معها شروط تغير الصيغة الحالية للمعارضة أيضا. ذلك أن شكلها المثقف أو الانشقاقي مرهون بالشكل الشمولي للنظام. و»ستبدع» الشروط التاريخية الجديدة معارضة جديدة، أقدر على خوض صراعات المستقبل.

* كاتب سوري