لا عزاء للخنازير في خليجهم
هل يريد الرئيس بوتين بإشارته إلى تلك الأزمة أن يعيدنا إلى تلك الأجواء وعالمنا اليوم مليء بالمجانين من كل المِلل والنحل المستعدين لتدمير العالم؟
لا يبدو أن حال السياسة الدولية أحسن بكثير من حالنا السياسية في الكويت حيث «لا راس ولا كرياس»، الكل يدَّعي وصلا بليلى و«ليلى في العراق مريضة». فالفوضى على الساحة الدولية عارمة، تنبئ بقادم أكثر أهوالاً وعناءً. عالم يقود نفسه إلى الهاوية.فها هو الرئيس الروسي بوتين يعيد إلى الأذهان مجدداً، مذكراً الغرب بأزمة الصواريخ الكوبية التي احتدمت عام 1962 على مشارف الجزيرة الكوبية، وكادت تؤدي إلى الحرب النووية الأولى التي كان الله وحده يعلم حجم الدمار الذي ستحدثه، ولولا مسؤولية ما للرئيسين الأميركي جون كيندي والسوفييتي نيكيتا خروتشوف لكان العالم قد دخل في «هولوكوست» حقيقي، وهكذا آثر القطبان اللجوء إلى الحرب الباردة بدلاً من تلك الحرب الجهنمية.ولكن ماذا كانت أسس وحيثيات تلك الأزمة التي كادت تقود العالم إلى دمار لا نهائي؟ بدأ الاتحاد السوفييتي إرسال معدات عسكرية واستقر في ذهن الولايات المتحدة أن السوفييت بدأوا بناء قواعد للصواريخ على الجزيرة الكوبية التي تبعد أكثر من 90 ميلاً من الشواطئ الأميركية، ويبدو أن السوفييت قد اندفعوا في هذا الاتجاه كإجراء وقائي لقيام الأميركيين ببناء قواعد صاروخية على الحدود التركية السوفييتية وشيدوا حائط برلين، كما قرروا حماية كوبا بعد محاولة الإنزال الفاشلة التي قادتها المخابرات الأميركية في «خليج الخنازير».كانت الولايات المتحدة، وقبل اشتعال أزمة الصواريخ الكوبية، قد شيدت قواعد صواريخية في منطقة إزمير بتركيا ويبلغ مداها حوالي 2400 كلم، أي أن موسكو كانت تبعد 16 دقيقة فقط عن مرمى تلك الصواريخ، وقد أبدى خروتشوف امتعاضه من وجود تلك الصواريخ، وهكذا بدأ السوفييت ابتداءً من مايو 1962 زرع صواريخ نووية في كوبا تحت السيطرة السوفييتية، فكان أن وصل عدد السفن السوفييتية التي وصلت إلى كوبا أكثر من 60 سفينة بحلول شهر يوليو بما سمي حينها بعملية «أنادير»، وكان الاستعجال في العملية مبعثه خشية السوفييت من غزو أميركي جديد على كوبا. وقد نجح السوفييت في تضليل الغرب والأميركيين، ولم تكتشف المخابرات الأميركية الأمر إلا في 14 أكتوبر بعد أن تم نقل ترسانة أسلحة نووية وما مجموعه 47000 جندي وتمركزهم في كوبا. ولم يصدق الرئيس كيندي بادئ ذي بدء أن السوفييت قد يقدمون على مثل هذا الفعل، بل إنه كان قد أبلغ الكونغرس بأنه لا توجد صواريخ سوفييتية هجومية على الأرض الكوبية، وحال اقتناع الرئيس كينيدي بالأدلة على وجود الصواريخ جمع مستشاريه ووضعت أمامه 3 خيارات: الأول، قصف جوي مدمر للصواريخ. والثاني، غزو عسكري كامل لكوبا. والثالث، حصار بحري لكوبا. وقد أقرت القيادة العسكرية الأميركية بإجماع أركانها الخيار الثاني وهو غزو كوبا. وبعد موازنة البدائل اتخذ الرئيس كيندي بدعم من وزير الدفاع روبرت ماكنمارا قراراً باعتماد الخيار الثالث، وهو الحصار البحري على كوبا. ولتجنب التعقيدات مع القانون الدولي تقرر تسمية الإجراء الأميركي «العزل» وليس «الحصار». وهكذا بدأت عملية «العزل» الأميركي لكوبا ابتداءً من مساء 22 أكتوبر، وتم تجهيز 180 سفينة بحرية أميركية لتنفيذ الحصار.وفي المقابل أصر خروتشوف على أن الحصار مخالف للقانون الدولي، وأن السفن السوفييتية لن ترضخ أو تسلم وستمضي في طريقها إلى كوبا وكانت هناك حوالي 19 سفينة سوفييتية في طريقها إلى كوبا، وهكذا بدأ اختبار الأعصاب والمواجهة، ورفعت القوات الأميركية جاهزيتها القتالية إلى أعلى درجة في تاريخها سابقاً ولاحقاً.في تلك الأثناء بدأت المراسلات السرية بعرض أميركي بإزالة صواريخها من تركيا مقابل إزالة السوفييت صواريخهم من كوبا. ولكن الذي كان يقال في العلن كان ينبئ بمواجهة نووية. والظريف أن إحدى السفن التي تم إيقافها وتفتيشها كانت سفينة لبنانية باسم «ماركولا»، بالطبع لم تكن تحمل أسلحة فسُمح لها بالمرور. ولاشك أن العالم قد حبس أنفاسه عندما أصدر كيندي قراره بالسماح بتحميل الطائرات برؤوس نووية، كما بدأ يقتنع بغزو كوبا وتغيير حكومتها، ولكنه أصر على إعطاء الأمر بعض الوقت، وفي المقابل فإن الموقف السوفييتي ظل مستمراً في التصعيد، كان المشهد يوحي بالمواجهة الحتمية حتى أعلن خروتشوف صفقة عبر راديو موسكو «إزالة الصواريخ الأميركية في تركيا مقابل إزالة الصواريخ في كوبا» ولكن الدراما لم تتنهِ هنا، فقد أسقط صاروخ سام سوفييتي طائرة مقاتلة أميركية، واتضح لاحقاً أن ذلك كان تصرفاً شخصياً من قائد الطائرة السوفييتي، ولم يعلم أنه كاد يتسبب في حرب كونية، ومع ذلك فقد أصر كيندي على إعطاء المفاوضات فرصة أخرى. ومن خلال اتصالات دبلوماسية ومخابراتية بين الطرفين تم الاتفاق على سحب الصواريخ السوفييتية وفي المقابل رفع الحصار والتعهد بعدم غزو كوبا، ولكن ما لم يعلن هو قبول كنيدي إزالة صواريخه في تركيا. وهكذا انتهت الأزمة لتُظهر علينا خروتشوف في وضع المهزوم، حيث أزيح من السلطة بعد عامين، كما نتج عنها ضمان بقاء كاسترو في السطلة الذي بدأت أزمته قبل عام في «خليج الخنازير»، وهي حكاية ذات مغزى مهم سنحكيها في المقال القادم. أما المصادفة التي لم يكن مخططاً لها هي أن أزمة الصواريخ الكوبية أو كما يسميها السوفييت الأزمة الكارييبية، كانت قد انتهت بالضبط في 28 أكتوبر 1962، وتتفق ذكراها مع موعد نشر هذا المقال، وذلك لم يكن إلا مصادفة.فهل يريد الرئيس بوتين بإشارته إلى تلك الأزمة أن يعيدنا إلى تلك الأجواء وعالمنا اليوم مليء بالمجانين من كل الملل والنحل المستعدين لتدمير العالم؟