أكذوبة مرسيل خليفة والفن الملتزم
كفانا كذباً على الناس، وكفى الناس أكذوبة «القصيدة الملتزمة» و«الأغنية الملتزمة»، فمرسيل خليفة ليس مدرسة التزام ولا أسطورة فن، ولا ما يدعيه من اضطهاد تمارسه «الإمبريالية الأميركية» ضده، في حين أنه يقيم حفلاته في شرق ولاياتها وغربها... إنه نتاج مرحلة ولَّت، وشعارات دفع ثمنها العالم العربي.
لا يمكن إنكار ما قدمه مرسيل خليفة من فن وموسيقى، لكن يجب ألا تدفعنا دمغته السياسية وجماهيريته الواسعة إلى إضفاء هالة مبالغ فيها على فنه، وإلى التعامل مع شخصه بنوع من التهيب، لئلا نخلط بين الحقيقي والمفتعل، وبين الوقائع و«البروباغندا».أن يكـون خليفــة حزبـياً وشيوعياً فهذا شأنه، لكن أن يرفع إنتاجه «النضالي» إلى مستوى الفنون الإنسانية الرفيعة فهذا شأن النقد. والحساب هنا يجب ألا تتداخل فيه السياسة وكمية المصفقين بالتقنية والقيمة الفنية، بل يجب ان يخضع لمقياسين: أولهما فني بحت يبحث في ما جدده خليفة على مستوى اللحن والموسيقى، وثانيهما سياسي يضع سياسة خليفة وأمثاله في ميزان السياسة وليس فوقها. نترك للنقاد الموسيقيين أن يخبرونا ما هي الجدة في ألحان خليفة بدءاً من غنائه قصائد الشعراء المناضلين المشهورين في بداياته اللبنانية العروبية، وصولاً إلى «جدل» وأعماله الباريسية، ونترك لهم القول الفصل في ما قدمه من تطوير أو تنويع على الألحان والمقامات، وأي نوع من المزيج أدخله بين الآلات الغربية والشرقية وقيمة هذا المزج، وهل هناك إبداع. بيد أننا على المستوى السياسي والإنساني والأخلاقي مضطرون إلى مطالبة مرسيل خليفة الذي لا يتوقف حديثه عن الحب والسلام والهيام بأن يرفق مداخلاته الهادئة ولغته التي تقلد الشعراء وتقربه من أشباه القديسين باعتذار صريح من اللبنانيين ينضم إلى موجة الاعتذارات السائدة بين أطراف الحرب الأهلية التي بدأت في العام 1975، ذلك أن خليفة كان جزءاً من تلك الحرب التي أذاعت شهرته بعدما قام بدور «جوليا بطرس» الحركة الوطنية، ومطرب «القوات المشتركة الفلسطينية-اللبنانية»، بل ذراعها الفنية ومنشد أناشيدها الثورية ومحرض مسلحيها على قتال أبناء وطنهم الذين رفعوا منذ ذاك التاريخ شعار «لبنان أولا»، وتبنى شعارهم معظم اللبنانيين بعد اغتيال الرئيس الحريري في 2005 وانتفاضة الاستقلال. وهنا يجدر بفنان، مثل خليفة، يذوب في المقابلات ويتحدث كما لو أنه كتلة من الأحاسيس، ألا يضرب صفحاً عما ارتكبه في حق مواطنيه من تحريض وإشادة بـ«شهداء» طرف من الأطراف وتشجيع على التقاتل وموت الشباب في سياق «حرب الأخوة»، «كي لا تنطفئ الشمس التي أشرقت على أيديهم» كما يقول في إحدى قصائده المغناة.مرسيل خليفة كان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي جزءاً من ترددات الواقع «الثوري» الذي خلّفته المقاومة الفلسطينية ورديفتها الأحزاب اليسارية اللبنانية. وليس غريباً أن رجع أصدائها لا يزال يرن لدى مخلفات الحركة القومية في الدول العربية كلها، فأن يستضيفه «حزب التجمع» في مصر ليس مستغرباً، وأن يلقى جمهوراً في كثير من الدول العربية ليس مثيراً للدهشة، ذلك أن هذا الجمهور هو نفسه «الشارع» العربي وريث الغوغائية التي تتلون بألوان السياسة. وهو نفسه الذي برر قيام أنظمة القمع العسكريتارية الثورية وكان يمجد صدام حسين ويصفق لاحتلال الكويت، وهو ليس إلا الشارع نفسه الذي يشجع على بقاء لبنان ساحة، وعلى المغامرات المقاومة التي تدمر الاقتصاد وتدفع الشباب اللبناني إلى الهجرة.أطرف ما في الموضوع أنه تحت قناع الترفع عن السياسة وعن التفاصيل، لم يجد خليفة في مؤتمر صحافي عقده في نقابة الصحافيين المصريين الاثنين الماضي تمهيداً لحفلته في دار الأوبرا المصرية الثلاثاء، إلا القول إنه «حزين»، مهاجماً «الأنظمة العربية المتواطئة مع القاتل». وهنا نسأل الفنان الذي لا يزال يغرف من قاموس سبعينيات القرن الماضي عن أي أنظمة يتحدث؟ عن السعودية التي لا يقيم فيها حفلات تنضاف مداخيلها الى ملايين الدولارات التي جناها من الفن الملتزم؟ أم عن دول الاعتدال العربي عموماً التي يسهل انتقادها بسبب اعتدال رد فعلها؟ أم عن الدول التي تستقبله على الرحب والسعة من اليمن إلى مصر وتونس والجزائر؟كفانا كذباً على الناس، وكفى الناس أكذوبة «القصيدة الملتزمة» و«الأغنية الملتزمة»، فمرسيل خليفة ليس مدرسة التزام ولا أسطورة فن، ولا ما يدعيه من اضطهاد تمارسه «الإمبريالية الأميركية» ضده، في حين أنه يقيم حفلاته في شرق ولاياتها وغربها... إنه نتاج مرحلة ولَّت، وشعارات دفع ثمنها العالم العربي الذي يشعر خليفة بـ«اللوعة» عليه. ولن ينتج إلا أصداء يرددها «شارع» يهوى الصراخ ورفع القبضات.