Ad

إذا كانت أحكام الشريعة الإسلامية خطاً أحمر بالنسبة إلى الإسلام السياسي، وشخص عبدالناصر خطاً أحمر للناصريين، وماركس خطاً أحمر للماركسيين... إلخ، وما دون تلك الخطوط «هذا فراق بيننا»، لمن هم في المعارضة، وزنزانة في قبوٍ لمن هم في السلطة، فذلك يعني الدوران في دائرة مغلقة.

أكثر ما يثيرني في متابعة عهد الملك فاروق تلفزيونياً، هو ذلك المعتقل الذي يزج فيه كبار السياسيين والأمراء، مكان الاعتقال هو «سرايا» جميلة محاطة بحديقة، والزيارات فيها مسموحة لأي كان، ولا ينغص حال المعتقل غير البعوض، بعد تقييد الحرية طبعاً، مشهد تلك «المعتقلات» يثير لدي مشاعر كثيرة من السخرية والألم، تدفعني إلى «مناكفة» من أعرف من الأصدقاء المنتمين إلى التيار الناصري، الأعداء الأشاوس لصديقي الملك. فعلى الأغلب، لا تشبه تلك السرايا في شيء، سجون العهد الجمهوري الثوري.

لكن بعض الأصدقاء الناصريين، رفضوا رفضاً قاطعاً متابعة مسلسل الملك فاروق. ما أربكني تجاه هذا الموقف، أنهم أولاً سوريون، فلا هم ولا آباؤهم أو أجدادهم تعرضوا لضيم أو إساءة على يد النظام الملكي «البائد»، ولعلهم لا يعرفون إلا القليل عن ذلك العهد بسلبياته وإيجابياته. وثانياً، أنهم شباب، لم يعيشوا زمن عبدالناصر والشغف بشخصه ومرحلته، ولم ينصهروا في سيل الحلم القومي الوحدوي الذي كان جارفاً وقتها. ويترتب على ذلك ثالثاً، افتراض أن يكونوا أقل أدلجة وانغلاقاً من الأجيال الناصرية التي سبقتهم. أما رابعاً وأخيراً، فإنهم ينتمون إلى أحد أحزاب المعارضة السورية، يشجبون الاستبداد ويدعون إلى التعددية وحق الاختلاف، ويأخذون هم أيضا على نظام البعث طمسه ما قبله من تاريخ سورية الحديث.

قلبتها يميناً وشمالاً فلم تستو، ولا يبدو أن هناك تفسيراً لموقفهم المتصلب هذا، إلا باعتباره «أصولية» ناصرية، لا ترى خيراً في غير الرجوع إلى الأصول (الثورة وزعيمها) تجبُّ ما قبل ذلك وما بعده من زمن ماض وحاضر، وليس لهذه كتابٌ مقدسٌ ولا شيوخٌ ولا فتاوى، ومع ذلك فهي تبز الأصولية الدينية -في معناها المتعارف عليه- تعصباً وانغلاقاً، ولا تفترق كثيراً عن مثيلتها البعثية، التي لا تني توجه لها سهام النقد والرفض.

وقد لا تكون في ذلك الوصف وحدها في المضمار. فتتعدد تلك «الأصوليات» بتعدد الأحزاب والتيارات السياسية واختلافها، وتهيمن الأنساق الفكرية المؤطرة ضمن حدود مرسومة بدقة، والمكبلة بقائمة من المسلمات غير القابلة للنقاش، تنشئ كوادرها على مثل ما نشأت عليه من «أمام سِر»، حتى ينطبق عليها قول المعري مع تحريف بسيط:

(يلقن «الكادر» الناشئ ما سمعه من الأكابر

فيلبث معه في الدهر الغابر)!

وهو ما يضمن مع الزمن «النقاء» الفكري غير الملوث بتطور أو تجديد.

وإذا كانت أحكام الشريعة الإسلامية خطاً أحمر بالنسبة إلى الإسلام السياسي، وشخص عبدالناصر خطاً أحمر للناصريين، وماركس خطاً أحمر للماركسيين... إلخ، وما دون تلك الخطوط «هذا فراق بيننا»، لمن هم في المعارضة، وزنزانة في قبو لمن هم في السلطة، فذلك يعني الدوران في دائرة مغلقة، تبدأ باستبداد سياسي وفكري لتنتهي بآخر مطابق أو مشابهٍ له.

ولا يغدو غريباً بعد ذلك، أن يتبنى أحد تلك الأحزاب «الأصولية» المعارضة، موقفاً كاد يصل إلى استخدام مفردات السلطة التخوينية، من معتقل سياسي سوري، حكم عليه بالسجن اثني عشر عاماً، لأنه زار الولايات المتحدة الأميركية والتقى علناً مسؤولين فيها، وترتب على ذلك استنكافه -أي الحزب- عن دعم ذلك المعتقل معنوياً واستبعاده من دائرة الاهتمام التي تحيط بالمعتقل السياسي عادة.

في مثل هذا الموقف، تغيب مفاهيم الحرية والاختلاف والتعددية، تلك المفاهيم التي «تقولب» على صورة «الإيمان» الجاثم في القلب والإيديولوجيا المستعصية في العقل.

قد يتطلب ذلك إعادة شرح تلك المفاهيم والتدرّب على ممارستها، وأي منا لم يعتد على هذا، لكنه يتطلب قبل كل شيء القبول المبدئي برمي الأقفال الحارسة للعقول، وإعطاءها الفرصة لشيء من الحرية في التفكير.

ربما يتسنى لأصدقائي الناصريين إعادة النظر في موقفهم ومشاهدة الملك فاروق في الإعادة بعد رمضان، بإمكانهم في أثناء ذلك أن يوجهوا ما شاؤوا من النقد له، وأن يرفضوا الصورة التي قُدم من خلالها جملة وتفصيلاً، لأنها في رأيهم تضفي عليه حسنات ليست في شيء من موبقاته.

ولا أخفيكم سراً، قد أفعل شيئاً مشابهاً إذا ما شاهدت فيلم عبدالناصر اليوم، ففي رمضان هذا العام، استمتعت بأن أتقمص شخصية «أصولية» رجعية، أهتف للملك فاروق وأضيع في أيام ما قبل الجمهورية. على الأغلب لأنني أنتمي إلى جيل ليس في ماضيه السياسي القريب وحاضره نسمة حياة، لكنها مجرد لعبة بريئة... على ما أعتقد!

* كاتبة سورية