Ad

كان للتاسع والعشرين من رمضان موقع خاص في حياة المسلمين الأوائل، وإلى حد بعيد لا يزال هذا اليوم يتمتع بمكانة أثيرة في المجتمعات الإسلامية، ولا عجب ففي نهاية ذلك اليوم يستطلع المسلمون هلال شهر شوال الذي يعني ظهوره في الأفق رفع قيود الصيام وكذلك بداية عيد الفطر بكل مباهجه ومظاهره الاحتفالية.

من الطرائف المتصلة بهلال شوال أن الملك العظيم والشاعر الأديب عيسى الأيوبي كان قد طلع إلى مئذنة دمشق لرؤية هلال شوال ومعه القاضي والشهود فلم ير الهلال أحد منهم ولكن رأته جارية من جواريه فقال الملك العظيم لابن القصار الشاعر قل في ذلك شيئاً فقال ابن القصار:

توارى هلال الأفق عن أعين الورى

وغطى بستر الغيم زهواً محياه

فلــــما أتــــــــاه لاجــــتـــــلاء شـقيقـــــــه

تــــــبـــدي لـــــه دون الأنـــــام فحــيــــــاه

وفي ديوان الشعر العربي قصائد عدة في مدح هلال شوال والترحيب بمقدمه وقد تجاوز فيها بعض الشعراء حدود التبجيل لشهر الصيام وهم يرحبون بهلال مؤذن بالمرح واللهو والقصف، وعموماً كان هلال شوال في الشعر العربي رمزاً لأيام السعادة والسرور.

وفي النثر أيضاً نجد صدى كبيراً للترحيب بهلال شوال في موضع المقارنة مع رمضان ومن طريف أمثلة النثر الفني دعاء الكاتب العباسي الشهير ابن العميد الذي سطر فيه «أسأل الله أن يعرفني بركته (رمضان) ويلقيني الخير في باقي أيامه وخاتمته وأرغب إليه أن يقرب على الفلك دوره ويقصر سيره ويخفف حركته ويعجل نهضته وينقص مسافة فلكه ودائرته ويزيل بركة الطول من ساعاته ويرد علي غرة شوال، فهى أسنى الغرر عندي وأقرها لعيني ويطلع بدره ويريني الايدي متطلبة هلاله ببشر ويسمعني النعى لشهور رمضان ويعرض على هلاله أخفى من السحر وأظلم من الكفر وأنحف من مجنون بني عامر وأبلى من أسير الهجر واستغفر الله جل وجهه مما قلت أن أكرهه واستعفيه من توفيقي لما يذمه وأسأله صفيا يفيضه وعفواً يوسعه إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور».

وكان مقدم شوال موضع ترحيب واحتفاء حتى في الدول التي لم تكن تستطلع أهلة الشهور الهجرية اعتماداً على الحسابات الفلكية لهلالات مذهبية أو علمية.

فعلى الرغم من أن الفاطميين كانوا لا يستطلعون هلال شوال لصيامهم بحسب جداول الحسابات الفلكية فإن دولتهم فاقت غيرها من الدول في الاحتفاء بعيد الفطر وما زالت تقاليدهم تجد صدى عميقاً في نفوس المصريين وعاداتهم وتقاليدهم أثناء العيد.

فكان الخلفاء الفاطميون يخرجون في موكب حافل لأداء صلاة العيد في «مصلى العيد» خارج باب النصر وقد تحول هذا المصلى المكشوف في ما بعد إلى مقبرة تعرف اليوم باسم قرافة باب النصر.

وكان يحيط بموكب الخليفة صفوف الجند وكبار رجال الدولة، وعند رجوع الخليفة من الصلاة ماراً بباب النصر يكون «صبيان الخف» قد استعدوا لمزاولة أعمالهم المذهلة.

وصبيان الخف طائفة من أهل برقة (ليبيا) لها مرتبات وكسوات يقومون بألعاب بلهوانية في الأعياد ويعد هؤلاء حبلين مسطوحين من أعلى باب القصر الفاطمي إلى الأرض، حبلاً عن يمين الباب وآخر عن شماله، فإذا عاد الخليفة من صلاة العيد نزل على الحبلين طائفة من هؤلاء على أشكال خيل من خشب مدهون وفي أيديهم الرايات وخلف كل واحد منهم رديف وتحت رجليه آخر معلق من يديه ورجليه.

ويركب من صبيان الخف جماعة في موكب الخليفة على خيول فيركضون وهم يتقلبون عليها ويخرج الواحد منهم من تحت إبط الفرس وهو يركض ويعود ويركب من الجانب الآخر ومنهم من يقف على ظهر الحصان فيركض به وهو واقف.

وكانت أمام القصر الفاطمي مساحة مفتوحة تعرف باسم «رحبة العيد»، وفي هذه الرحبة كانت وقائع هذه الألعاب والاستعراضات التي يشاهدها الخليفة من نافذة قصره تدور ابتهاجاً بقدوم العيد، وما زالت تسمية هذه الرحبة قائمة في منطقة الجمالية وبالتحديد أمام مدرسة الأميرة تتر الحجازية.

وقد استمرت عادة مشاركة البهلوانات في الأعياد بشكل واسع حتى القرن التاسع عشر فلاحظ علماء الحملة الفرنسية وجود هؤلاء البهلوانات والحواة في تجمعات تعرض ألعابها وحيلها على الجمهور المحتفي بالعيد في ميدان الرميلة (القلعة) وإلى جانب هؤلاء شاهد الرحالة عروضاً لخيال الظل والأراجوز وكلها كانت من مظاهر الاحتفال بعيد الفطر.

ويمكن القول بأن الملاهي أو «حارات العيد» في المدن المصرية وأيضاً جولات الحواة والأراجوز في الريف والمدن الصغيرة ما هى إلا استمرار لمهرجانات صبيان الخف الفاطميين وإن بصور مختلفة.

أما موكب الخليفة الفاطمي في عيد الفطر فقد استبدل منذ العصر الأيوبي بموكب للرؤية ينطلق بقيادة القضاة وفرق من الجند قبيل صلاة العشاء وتشارك فيه طوائف الحرف المختلفة التي ازدهرت في العصرين المملوكي والعثماني ويعد انطلاق الموكب إشارة إلى الاحتفاء باستطلاع هلال شوال.

وظل موكب الرؤية بطابعه الشعبي أمر مرعياً بين المصريين خصوصا في العصر العثماني، فيتصدره العلماء والقضاة ثم أصحاب الأشاير أي المتصوفة براياتهم المختلفة الألوان ويليهم أصحاب طوائف الحرف في عربات يستعرضون فيها بعضاً من منتجاتهم أو مهارات حرفهم، مثلما كان يحدث في مواكب الأعياد في الأستانة.

ولكن هذا الطابع الشعبي تبدل كلياً بعد تولي محمد على باشا للحكم في عام 1805، إذ عقب قراره بحل التنظيمات النقابية وإلغاء طوائف الحرف، صار موكب الرؤية مؤلفاً من ممثلين للفرق العسكرية بأزيائها المختلفة ومصحوباً بموسيقى عسكرية. وقبل ثلاثة عقود كانت محافظات مصر تحتفي بموكب رؤية هلال شوال فتسير عربات الإطفاء والإسعاف وأيضاً مركبات بعض الشركات تحمل عينات من منتجاتها في هذا الموكب الذي تتقدمه صفوف من الخيالة، ويبدو أن زحمة السير في المدن المصرية والأحوال السياسية فيها قد استدعت إلغاء هذا الموكب أيضاً.

ومن العادات المصرية الوثيقة الصلة بالاحتفال بأول أيام عيد الفطر في مصر الحرص على تناول السمك المملح بأنواعه وأخصها بالعناية الشعبية الفسيخ والملوحة.

ويبدو أن عادة تناول وجبة من السمك المملح في اليوم الأول لعيد الفطر كانت عادة قديمة تعود في أقل تقدير إلى عصر المماليك.

فقد ذكر سبط ابن الجوزي في القرن السابع الهجري (13م) أنه أكل يوم عيد الفطر سمكاً مملحاً ولربما وجد المسلمون في عيد الفطر مناسبة لمبادلة إخوانهم الأقباط إهداء السمك المملح الذي اعتاد الأقباط إهداءه في سبت النور السابق لعيد شم النسيم. ومهما يكن من أمر فإن إهداء الأسماك المملحة في الأحياء كان عادة فرعونية سابقة على الإسلام والمسيحية في مصر.

وقد انتقد ابن الحاج وهو من علماء مصر في أوائل القرن الثامن الهجري (14م) أهل مصر لأكلهم السمك المشقوق في عيد الفطر مثلما انتقدهم لأكلهم الكعك عقب الصيام لأن كليهما ضار بالمعدة عقب الصيام. ومع ذلك فإن بعض الدراسات الطبية الحديثة تشير إلى أن تناول وجبة من السمك المملح عقب صيام رمضان فيه فائدة للمعدة وعمليات الهضم بها.

ومن الملفت للنظر أن أهل جزر المالديف من المسلمين كانت لهم العادة نفسها في أول أيام الفطر فكانوا يأكلون السمك المملح، وهذا ما سجله الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة عندما حضر مأدبة الوزير في الجزر التي كانت تعرف باسم «ذيبة المهل» إذ قال إنه رأى «حوتاً من السردين مملحاً غير مطبوخ أهدي إليهم من كولهم وهو بلاد المليبار كثير» وأخذ الوزير سردينة وجعل يأكلها وابن بطوطة ينظر إليه فطلب منه أن يأكل واحدة لأنها، أي السردينة، ليست ببلاد ذيبة المهل فاعتذر ابن بطوطة وأصر على موقفه لأنها غير مطبوخة مؤكداً للوزير أن البلاد التي جاء منها بها هذا النوع من الأسماك.