Ad

تدفع الصيغة السياسية القائمة في سورية إلى انتظام المجتمع على أساس الطبيعة، الغريزة وموروثات الماضي، لا على أساس الثقافة ومشروعات المستقبل. ستدفع سورية ثمنا باهظا لذلك على الأرجح، فالدول والمجتمعات التي لا تحل مشكلاتها بالعقل ستنحل مشكلاتها بأن تفسد وتتحلل هي نفسها.

يحدث، في شروط بعينها، أن يكون الامتناع عن فعل أي شيء هو الشيء الوحيد الصحيح.

من هذه الشروط أن تكون معارضا في سورية مثلا، حيث تحرص السلطات على شل معارضيها أو إيذائهم إن نشطوا بما يوافق مفهومهم كمعارضين، أي حيث يعتبر المعارض الجيد هو المعارض غير الموجود. هذا هو الحال منذ عقود طويلة لم تتوافر فيها أي شروط سوية لعمل عام سوي. يستحق المعارضون السوريون في الداخل التضامن معهم بلا ريب، وهم جديرون غالبا بالاحترام، لكن هذا لا يعني بحال أن عدالة قضيتهم تغني عن النظر في نهجهم السياسي، أو تعفي من رصد أخطاء محتملة لهم، والمنبع الأساس للأخطاء هو الإصرار على العمل السياسي المباشر في شروط نزع السياسة، ما يقود إلى السرية أولا، وإلى التسييس المفرط ثانيا، وإلى ضعف الإنجاز والتراكم، بل إلى التآكل والعزلة ثالثا، وإلى انعدام النقد الذاتي والانفتاح الفكري رابعا، وإلى التعصب للذات والدكتاتورية داخل التنظيمات خامسا، وإلى نضالية مفرطة تشوش التفكير وتحل محله سادسا. أما أخطاء التحليل أو الموقف فهي الأقل أهمية لأنها ممكنة دوما، وإن كان يحصل أن تكون كبيرة في شروط كهذه.

وشروط التسلط الغشيم الفاقد أي معنى عام هذه تعوق تحقيق تقدم على مستوى الحساسية والفكر والتحضر في أوساط المعارضة، فلا تترك موقعا مستقلا أرقى يمكن منه نقد الذات وتقويمها. وعلى هذا النحو ينضاف شرط ثقافي يتسم بالضعف والرثاثة إلى شرط سياسي موسوم بالتسلطية واحتكار المجال العام ليجعل فرص ارتكاب الأخطاء الكبيرة وفيرة من جهة وفرص النقد المصحح لها ضئيلة من جهة أخرى، وهذا كله على خلفية شرط ثقافي سوري وعربي لا يوفر منذ ثلاثة عقود على الأقل ركائز متينة لمشروع اجتماعي وسياسي جديد.

ولايزال المعارضون والمثقفون يتصرفون كما لو أنه لا أهمية لذلك، وكما لو أنه يمكن الاستمرار على قيد السياسة من دون مشروع جديد يكون في الوقت نفسه أساسا لشرعية سياسية جديدة.

هذا الكلام صحيح بصورة خاصة بعد الاعتقالات التي جرت أواخر العام المنقضي ومطلع هذا العام في أوساط ائتلاف «إعلان دمشق». لقد عمل النظام على تقويض الائتلاف، فاعتقل 14 من ناشطيه الأساسيين وشل حركة الآخرين أو قيدها إلى أقصى حد. وهو ما يعيد التذكير بسوابق كانت أفضت إلى تحطيم المعارضة في ثمانينيات القرن العشرين وانهيارها الفعلي في التسعينيات.

في مثل هذه الحال التي تتخطى نزع سياسية المعارضة إلى تخوينها ونزع وطنيتها، بل إلى تنكيد حياة المعارضين وأسرهم والمساس بموارد عيشهم، الشيء الصحيح الذي يتعين عمله هو... لا شيء. ينبغي ألا ننخرط في عمل سياسي ونحن على هذه الدرجة من البؤس ونزع الإنسانية. وإلا فإننا نتواطأ مع نزع إنسانيتنا، ليس فقط لما قد نتعرض له من معاملة لا إنسانية، إنما لأن من شأن الاستماتة في العمل في مثل هذه الشروط أن يميت أرقى المشاعر الإنسانية، ويجعل المعارضين مشابهين لخصومهم التسلطيين.

أعني لا شيء سياسيا بالطبع. هناك أشياء أخرى كثيرة لا سياسية يمكن ويتعين الاعتناء بها، وأولها هو الثقافة. لقد ترافق نزع السياسة من المجتمع السوري مع نزع أشد للثقافة، ومنذ أواسط السبعينيات من القرن الماضي صنعت بيئة سياسية يسودها الخوف وعدم الثقة، متشككة بالثقافة أو معادية لها صريحة، تقمع النقد والتساؤل والفضول، وتعادي استقلال الرأي والضمير. لا ثقافة ممكنة في بيئة كهذه، وبالتالي ما من تفكير جسور منفتح، ما من معان جديدة غير مسبوقة، ما من إحساس جديد شجاع، وبالطبع ما من ساحة عامة لتداول الأفكار، وما من نقاش عام من أي نوع. ما سيكون حال السياسة إذن دون الفاعلية الفاتحة والمحررة للثقافة؟ ستكون صناعة لعصبيات جديدة أو انكفاء على عصبيات قديمة، إي إنتاجا لانغلاق ينسخ بنية الانغلاق التسلطي.

استعادة الثقافة، لذلك، أولى وأهم من استعادة السياسة، بل إنها شرط لها. هذا ليس فقط بسبب النظام النازع للثقافة إنما كذلك لأن تحرراً سياسياً في مجتمعاتنا غير متصور دون ركائز ثقافية نفتقر إليها اليوم بوضوح. ركائز علينا بناءها، إذ لا يمكن أن تفد إلينا من الخارج أو تستورد من الماضي. ما يأتي من عند غيرنا (وماضينا هو «غير» قدر ما هو خارجنا) هو إيديولوجيا وليس ثقافة. يمسي ثقافة حين نتمثله بأن نعيد تمريره عبر حواسنا وحساسيتنا، أي نمزجه بتجاربنا وخبراتنا، ونعقله. الأصح لذلك أن نتكلم على بناء الثقافة والسياسة وليس على استعادتهما.

لكن ما شأن المعارضة بذلك؟ لعل في ما سبق ما يسوغ اشتغال المعارضة بالثقافة. أولا، إنها ممنوعة من مطابقة مفهومها كمعارضة سياسية. ثانيا، إن مجتمعنا منزوع الثقافة وليس منزوع السياسة فقط، ولأن استعادة السياسة دون استعادة الثقافة على ما هو جار اليوم تفضي بسرعة إلى طريق مسدود نظننا بلغنا سدّه فعلا. وثالثا، لأن المعارضة في سورية كانت دوما قريبة من الثقافة، ومن أوساطها ظهر بعض أهم المثقفين السوريين، ولأن إرادة الاعتراض والاحتجاج المقترنة بعمل المعارضة يمكن أن تتحول إرادة نقد فكري وثقافي. ورابعا، لأن صون إنسانية المعارضين وترقيهم الحضاري يقتضي مداورة سياسة يصفها معارضون نبهاء بحق أنها وحشية و«بنت حرام».

تدفع الصيغة السياسية القائمة في سورية إلى انتظام المجتمع على أساس الطبيعة، الغريزة وموروثات الماضي، لا على أساس الثقافة ومشروعات المستقبل. ستدفع سورية ثمنا باهظا لذلك على الأرجح، فالدول والمجتمعات التي لا تحل مشكلاتها بالعقل ستنحل مشكلاتها بأن تفسد وتتحلل هي نفسها. على هذا النحو تشتغل الطبيعة، أما الحلول العقلانية فهي نتاج الثقافة، ورغم أن تدخل الثقافة واستقلالها ليس شيئا يتحصل بمحض وجود ناشطين ومثقفين حريصين على استقلالهم، فإن هذا أوله وأساسه.

لطالما قلنا في سورية وفي بلاد عربية أخرى إن نظمنا مستبدة وتسلطية وإن الاعتراض عليها حق. هذا صحيح، لكن قد يكون آن أن نستخلص منه ضرورة تغيير المعارضة باتجاه أن تمسي حركة تجدد ثقافي، وكشرط لتغيير السلطة. من دون ذلك سوف تصاب هي نفسها بالتحلل، أليس هذا ما يجري في أكثر البلدان العربية؟

* كاتب سوري