Ad

من أشهر المصورين الأتراك قبل العصر العثماني، فنان ترَك لنا مجموعة كبيرة من الصور التي جُمعت في ألبوم يحتفظ به متحف طوبقا بوسراي باستانبول، إنه محمد سياه قلم، أو محمد صاحب القلم الأسود، وقد ترك هذا الفنان توقيعه على الصور الكثيرة التي وصلتنا من إنتاجه، سواء على الورق أو الحرير.

في ما عدا توقيعه الذي يشير إلى اسمه محمد سياه قلم فإننا نجهل تماماً أصله أو مكان حياته أو موعد مماته. وقد أثار هذا الغموض فضلاً عن غرابة أسلوبه وموضوعات تصاويره جدلاً واسعاً في أوساط مؤرخي الفن والآثريين.

وغاية ما انتهى إلىه كل فريق من الباحثين أن هذا الفنان قد وقع تحت التأثير الطاغي لفنون الصين والشرق الأقصى فضلاً عن تأثره إلى حد ما ببعض تقاليد التصوير الفارسي.

وفي ما عدا ذلك فقد اختلف الجميع في نسبته إلى آي من الأقاليم الآسيوية، فهناك من يراه من قبائل الاويغور إحدى قبائل الترك التي سكنت منطقة التركستان الشرقية غير بعيد من حدود إمبراطورية الصين، وترتيباً على ذلك فإن محمد صاحب الريشة السوداء، ليس سوى مصور تركي نشأ في تلك المنطقة من السهول الآسيوية الواقعة تحت نفوذ الصين الحضاري، بينما يرى آخرون أنه مصور تركي عاش في مدينة هراة باسم «محمد نقاش» وأنه اعتاد أن يصور الأحداث الغريبة والشخصيات العجيبة، وإضافة إلى ذلك فقد استطاع أن يصنع خزف شبيها بالخزف الصيني خلال النصف الثاني من القرن التاسع الهجري (15م).

ويدلل البعض على صحة ذلك الادعاء بأن بعض التيموريين الذي عاشوا في هراة خلال تلك الفترة قد جاؤوا إلىها بعد إقامات طويلة في براري خوارزم وسيبريا الغربية حيث خبروا حياة البداوة القاسية والتي نراها ممثلة في أغلب أعمال محمد سياه قلم.

ومهما يكن من أمر هذه الخلافات التي يصعب حسمها بصورة يقينية فإن الذي لا شك فيه أن المصور هنا قد خبر جيداً حياة الترك الأولى قبل أن يندمجوا بصورة نهائية في المجتمع الإسلامي تاركين عيشة البداوة الخشنة ذلك إن لم يكن هو ذاته واحداً من هؤلاء الذين دخلوا لتوهم في دين الإسلام.

وقد ترك لنا محمد سياه قلم نوعين من التصاوير منها تصاوير ذات طابع ديني والأخرى تتعلق بحياة البدو الرحل اليومية.

وتكشف تصاوير هذا الفنان عن بعض جوانب العقائد الطوطمية والبدائية التي كانت شائعة في التركستان الشرقي والتي نلمح طرفاً من بقاياها في المؤلف الشهير للمؤرخ محمود الكاشفري عن أصل الترك وتاريخهم.

فمن المعروف أن الأتراك القدماء كانوا يعبدون العناصر المتعددة التي تحولت إلى عبادة ثنائية اقتصرت على السماء العالية والأرض المرتفعة كالجبال. وعبادة الشمس التي عرفوها باسم تنكجري هي الديانة المعروفة بالشلمانية. ويتلخص مفهومها في أن السماء والأرض تمتلئان بالأرواح الخيرة والشريرة، وأنه عن طريق وساطة الكاهن الذي يسمونه سامان يمكن السيطرة على الأرواح الشريرة واكتساب محبة الأرواح الخيرة بفضل التأمل في قبة السماء.

ويظهر أن محمد سياه قلم كان يعبر بالصورة عن بعض الحكايات الشعبية والأساطير المعروفة لدى الترك في صحراواتهم الشاسعة وهي تدور جميعها حول القوى الشريرة التي تمتلك قدرات تفوق ما لدى البشر، ولها من الأشكال المخيفة والمفزعة ما لم يخطر على قلب إنسان.

وثمة مجموعة من الصورة توضح العفاريت أو الجن «الأرواح الشريرة» التي تتميز جلودها باللون الأسود تارة وباللونين الأحمر والأصفر تارة أخرى، ولهذه المخلوقات رؤوس مخيفة تعلوها قرون وتتقد بوجوهها المجعدة أعين هي كالجمر وتبرز من أفواها العريضة أنياب طويلة وتتدلى أعناقها القصيرة. وقد وصل محمد سياه قلم هذه الرؤوس البشعة بأجسام قصيرة غليظة تنتهي أطرافها بمخالب. وترتدي هذه الكائنات الغريبة أردية تستر نصف جسمها الأسفل وتتزين أحياناً بحلقات معدنية تضعها في اذرعها ومعاصمها ورقابها. وتبدو هذه المخلوقات الشديدة القسوة والوحشية بملامح وجوهها التي تشبه الأقنعة وكأنها من بني آدم، إذ ترتدي ملابسهم وتتحرك في أفعال تشابه حركات الإنسان، فهي ترقص وتعزف على الآلات الموسيقية وتشرف الناس وكذلك الحيوانات. كما تصور بعض هذه الكائنات البشعة وهي تجر حيوانات هزيلة خلفها أو تقدمها كقرابين. وفي أغلب الأحيان نرى كائنات سياه قلم وهي تتصارع بوحشية أو تهزم التنين أو تحمل الخيل على ظهورها دون أدنى مشقة مما يشير إلى قدراتها التي تفوق طاقات البشر.

كما نراها مقيدة بالسلاسل وإلى جوارها سياط مما يوحي بمدى خطورتها. وفي بعض الصور تظهر هذه المخلوقات وهي مطبقة بوحشية على أشلاء آدمية تقدم فدية لها.

ومن صور العفاريت أو الأرواح الشريرة واحدة توضح قيامها بحمل صناديق هائلة الحجم وقد قيدت أرجلها بالسلاسل كما ربطت أعناق بعضها إلى بعض مما يوحي بأنها مسخرة من قوى أكبر للقيام بهذا العمل. ولهذه العفاريت سحن مختلفة، فمنها ما يشبه القردة ومنها ما يقارب تصور بعض رسامي العصور الوسطي عن الجن والشياطين بهيئة شديدة التجاعيد. وتظهر بوضوح الأطواق التي تحيط بالمعاصم والأرجل والرقبة آيضاً.

ونرى آيضاً صوراً لعفاريت تلقي مواعظ على حشو غير مرئي وقد اتكأ بعضها على عصا طويلة أو نراها وهي تجر هودجا وتسير به في الهواء.

وثمة صور أخرى لآدميين لعلهم من أتراك السهول الآسيوية وهم يمارسون حياتهم اليومية فمنهم من يرعى الإبل أو يعزف على آلة موسيقية أو يؤدي رقصات مع التلويح بمناديل في الأيدي.

وبصفة عامة فإن هذه التصاوير تترك أثراُ عميقاً في نفس من يشاهدها بفضل قدرات محمد سياه قلم الواضحة في استشفاف وتسجيل الملامح الدقيقة المتعددة، وبرغم استخدامه للون واحد في أغلب الأعمال التي تركها أو غلبة الألوان الداكنة المتشابهة في قتامتها فإنه كان يلجأ في بعض الأحيان إلى استخدام اللونين الأزرق والأحمر وكان تأثيرهما في هذه الحالة هزيلاً معدم البريق.

وبينما تغمره رسوم العفاريت في إحساس طاغ بالهلع يدفعها إلى القيام بحركات عنيفة للتحرر وتحطيم الأغلال نرى شخوص المجموعات التي تقوم بأفعال بشرية تتحرك في بطء وبمحض إرادتها بل تبدو أحياناً في حال تناوم وشرود.

ومعظم المخلوقات الخرافية من الذكور، وأقلها من الصغار والإناث وتبدو وجوهها أحياناً، وهي تحمل علامات الدهشة الممزوجة بالذعر والغضب تصاحبها دائماً نظرات ثاقبة حادة؛ لكنها جميعاً تعطينا الإحساس بأننا أمام أقنعة. كما تبدو بعض الوجوه متعبة مكدودة وهي ترنو إلى الأفق البعيد متأملة الفضاء اللانهائي لعل تأملها في قبة السماء يؤدي إلى طرد الأرواح الشريرة حسب ما تقول بذلك الديانة الشامانية.

ومن مجموعات الأعمال التي تصور هذه الشخوص الملفقة وهي تمارس نشاطها اليومي واحدة لراعٍ وهو يعنى بقطيعه وأخرى لنجار وهو يصنع الأثاث وثالثة لمجموعة من الشيوخ الطاعنين في السن، وقد خلع أحدهم قلنسوته التي تستخدم غالباً في الأجواء الشديدة لبلاد الترك، ووضعها أمامه إلى جانب العصاب التي يتوكأ علىها. ويومئ هذا المنظر الذي يجسد آدميين لهم ملامح البشر، وثيابهم ولحاهم الكثة بأن هؤلاء الأشخاص ليسوا سوى جماعة من الشيوخ الذين جلسوا يستجدون الناس إحساناً.

والحقيقة أن هذه التصاوير مفعمة بالتعابير المفرطة عن البؤس وثقل الحركة ومثلما هي آيضاً مشحونة بتأثيرات صينية ومغولية تبدو واضحة في رسم طيات ملابس العجائز.

إن تصاوير محمد سياه قلم التي تعد في نظر مؤرخي الفنون من بواكير التصوير التركي لتقف ضوءا للعديد من المدارس الحديثة التي عرفتها أوروبا سواء على صعيد التصميم أو الخطط اللونية، وإذا كان التصوير التركي لم يتأثر باتجاهات سياه قلم الفنيه، في ما تلا ذلك من عصور، فإن الذي لا مراء فيه أن هذا الفنان قد حفر بإنتاجه المتفرد والغزير اسمه في قائمة أكثر مصوري المخطوطات الإسلامية إثارة للجدل والإعجاب في آن واحد.